اختلفت أسماء الطرق بإختلاف أسماء مؤسسيها، والخلافات التي كانت ولا تزال بين الطرق تنحصر في الرسوم العملية فقط، كالزي والأوراد والأحزاب التي يرددها الأتباع وما إلى ذلك.والغاية القصوى من الطريق الصوفي تتمثل في غاية خلقية هي إنكار الذات، والصدق في القول والعمل، والصبر...
اختلفت أسماء الطرق بإختلاف أسماء مؤسسيها، والخلافات التي كانت ولا تزال بين الطرق تنحصر في الرسوم العملية فقط، كالزي والأوراد والأحزاب التي يرددها الأتباع وما إلى ذلك. والغاية القصوى من الطريق الصوفي تتمثل في غاية خلقية هي إنكار الذات، والصدق في القول والعمل، والصبر والخشوع، ومحبة الغير، والتوكل وغير ذلك من الفضائل التي دعا إلإسلام إليها. لقد كان مشايخ الطرق يطلبون من المريدين التوبة عن المعاصي والذنوب، والإستجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وإتباع السنة، وتطهير القلب، وتزكية النفس، وإصلاح المعتقد، كما كانوا يلقنونهم الأذكار المأثورة، ويبثون فيهم الفضائل والأخلاق الحسنة، ويحذرونهم من الآفات الإجتماعية كالكبر والحسد والرياء... وكانوا يحضون المريدين على حب الله سبحانه والسعي لنيل رضاه وحب الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين... لذلك كانوا الشموع التي أنارت ظلمات الدرب، والمداميك التي قام عليها بناء مجتمع فاضل تسوده روح التضحية والإيثار، والسهام المرصدة في محاربة المنكرات والإنحرافات، والمُثُل الحية في الصلاح والتقى والبعد عن الشهوات والهوى. لقد كانت الدنيا طوع بنانهم لكنها لم تدخل قلوبهم التي ادخروها لحبّ المولى سبحانه وحبّ حبيبه صلى الله عليه وسلم؛ لقد رفضوا المناصب وهدايا الأمراء وزهدوا في كل ذلك محافظين على عزة نفوسهم، ومتوكلين على خالقهم، معتبرين أن الرزق بيد الله وحده. ولئن قبل بعض الصوفية الهدايا والأموال من الأغنياء؛ فإنهم لا يفعلوا ذلك إلا ليوزعوها على الفقراء؛ فكانوا بذلك نقطة الإتصال بين طبقتي المجتمع: الأغنياء والفقراء، لتقليل الفوارق بينهما، وإشاعة جوّ من الألفة والمحبة، فيحنو الغني على الفقير، ويجد لذة عظيمة في إحسانه وصدقته، ويشعر الفقير بإنسانيته ويحبه للغني وإحترامه. وكثيراً ما كانت الزاوية في المنطقة الفقيرة بلسماً لجراحات العديد من الفقراء والمعوزين الذي رزأهم الدهر بمصائبه وويلاته فأفقدهم المال والمعيل؛ أو تقدمت بهم السنون فتضجر أولادهم من العناية بهم والإهتمام بأمرهم... فكان هؤلاء وغيرهم يجدون في الزاوية ما يسدّ رمقهم، ومن يكفكف دمعاتهم، ومن يربت على أكتافهم، ومن يعلمهم ويربيهم أحسن التربية التي نتخذ مناهجها من روح الإسلام وجوهره وتسترشد بتعاليمه وأوامره؛ فكان اليتيم الصغير يتخرج من الزاوية مواطناً صالحاً متفانياً في فعل الخير. وكان الكبير يتخرج منها وهو على أتم الإستعداد لتقبل الأذى بكل رحابة صدر، لكن بعض الزوايا قد انحرفت عن أهدافها الأصيلة، فكانت تجري فيها المنكرات والفواحش؛ الأمر الذي لطخ سمعة الصوفية عموماً. وفي الواقع يجب أن يميز المرء بين الصوفي الحقيقي وبين المدعي الذي يتخذ من التصوّف تجارة أو رداءً يتستر به لتحقيق أطماعه وشهواته. كذلك فإن مشايخ الطرق الصادقين لم يقصروا في ميدان الجهاد، وكتب التاريخ حافلة بأسماء الصوفية المجاهدين الذين كرسوا حياتهم لمقارعة الأعداء، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإعادة المنحرفين؛ فهؤلاء الصوفية كانوا الدليل الساطع على أن التصوف لا يعني الكسل والخمول والفرار من معترك الحياة. ويأتي النقشبندية في طليعة هؤلاء الذين نشروا الإسلام ودفعوا عن بلادهم، في مناطق لم تصلها الجيوش الإسلامية لا سيما في أواسط آسيا حيث كانوا يعدون بمئات الألوف؛ كما أنهم قاموا بدورهم الإجتماعي والتهذيبي. لقد قسمت الكتاب إلى قسمين: يتناول القسم الأول مبادئ وأسس الطريقة النقسبندية مع نبذة عن المؤسسين؛ ويضمّ القسم الثاني أعلام ومشاهير التقشبندية في العالم الإسلامي منذ نشأة الطريقة حتى الآن. ولئن ذكرت بعض الآيات القرآنية التي تستند إليها مبادئ الطريقة؛ فإن الإسلام هو المصدر الأساسي للحركة الصوفية المعتدلة؛ فالبرغم من تأثر هذه الحركة، خلال تطورها، بالمؤثرات الخارجية فإن القرآن الكريم، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحياة الصحابة رضي الله عنهم، كانت المصادر التي استقى منها التصوّف مبادئه وأسسه.