-
/ عربي / USD
لقد كان للأئمة الفقهاء جهوداً كبيرة بذلوها في تحقيق المسائل الشرعية، وفي تدقيق النظائر الفرعية، وفي استنباط أحكام الفروع من أدلتها التفصيلية، فاتفاقهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة، قِوام الدين بهم، وثبات الشرع بفقههم. وإن من الفقهاء المبرزين الذين شاع فقههم في الأمصار، واشتهر آثار علمهم في الأقطار، ونُقلت أقوالهم وأنظارهم بطريق التواتر والاشتهار، الأئمة الأربعة المتّبعون: أبو حنيفة النعمان ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل. وكان الإمام الأعظم والمجتهد الأقدم أبو حنيفة النعمان من أوائل الفقهاء تأصيلاً وتدليلاً، واستنباطاً وتعليلاً؛ بل كان هو أول من أقام مجلساً فقهياً، عظيماً يضم كبار الأئمة من أصحابه ، يعلمهم ويناظرهم، ويحقق المسائل، ويدقق الدلائل، وقد يبقى في المسألة شهراً ناظراً فيها، وفي حكمها متأملاً. ثم إذا ما عرض على أصحابه الأدلة، ودققوا النظر في وجوه الدلالة بتّ هو في المسألة، وهذا ما جاء ذكره في كتب الحنفية التي أتت على ذكر طريقة تفقيه الإمام الأعظم لأصحابه، وقد كان أكثر أصحالب الإمام أبو حنيفة تاليفاً وجمعاً للمسائل وتصنيفاً؛ محمد بن الحسن، الذي قام بتصنيف المصنفات التي جمعت قول شيخه أبي حنيفة وأبي يوسف، ودلائلها ومداركهما الفقهية، وقوله في المسائل الفرعية، ودقته في فهم كلام العرب وتعقيد قواعد المذهب. لذا أصبحت مرجعاً لفقهاء الحنفية؛ عليها يعول ويعتمد، وإليها يُرجع ويستند، ولما جاء دور أصحاب أصحابه جمعوا ما كتبه وضموا إلى ذلك ما قرّروه في المسائل التي لا رواية للإمام وأصحابه فيها وما رجّحوه فيما ظهر لهم من وجوه الترجيح. ثم جاء دور المتأخرين الذين عمدوا إلى اختصار مطولات المتقدمين تسهيلاً لحفظ المذهب، وجمعوا الأشباه والنظائر، وميّزوا ظاهر الرواية عن غيرها، ووسعّوا وجوه التعليل، ونصّوا على الصحيح المختار، والمفتى، وما عليه الاختيار.
وقد كان من جمع عيون الروايات ومتون الدرايات مؤلف هذا المتن "زاد الفقير" الكمال ابن الهام، فقد جمع هذه المقدمة في العبادات فأوعى؛ بأحسن عبارة، وألطف إشارة، مع إيجاز في التقرير ودقة في التعبير. وكان شرح شمس الدين محمد بن عبد الله التمرتاشي الذي هو بين يدي القارئ، من أوسع الشروح/ وأنفعها، وأدقها وأجمعها، وذلك لما حوى من دفع إيرادات، وحلّ إشكالات وردت في تلك المقدمة، وقد كان هذا الإمام الجليل أميناً في النقل؛ ينقل النص كاملاً ويعوزه إلى ذلك الكتاب. وهذه ترجمة لصاحب المتن والشارح.
صاحب متن "زاد الفقير" هو الإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن مسعود.. بن سعيد الدين السيواسي الأصل، ثم القاهري الحنفي. ولد سنة (790هـ) في الاسكندرية. كان والده قاضياً في بلده الأصل سيواس، وثد رأى أن ينتقل إلى بلدة أخرى ليفيد من العلم، ويستفيد على عادة أهل العلم في ذلك العصر من الحرص على الرحلة، فانتقل إلى القاهرة، حتى اختير قاضياً بها، ثم تولّى قضاء الاسكندرية حتى تزوج ورزق مولداً سمّاه محمّداً، واشتهر بعد ذلك ب، "ابن الهمام" فكانت نشأته في بيت علم وفضل، وفي أسرة علمية دينية مشهورة. توفي والده، واهتمت أمه بمواصلة تعليمه، فأخذ القرآن عن الشمس الزراتيني، وعلم القراءات، وتقدّم على أقرانه، وبرع في العلوم، وتصدر لنشر العلم. اتصف الكمال بحسن العشرة والبشرة، منصفاً، معظّماً للعلماء، طيب الحديث يطرب إذا أنشد أو قرأ. كان يجيد الفارسية والتركية، إلا أنه بالأولى أمهر كان يعمل في الإفتاء, وقد أنشأ كثير من فقهاء الحنفية بان الهمام، وأثنوا على تحريراته وترجماته، ويبدو أنه كان ذا همّة عالية وطموح إلى بلوغ مرتبة الاجتهاد. وإذا كان ابن الهمام قد بلغ رتبة الاجتهاد في رأي الكثيرين، فإنه يعدّ من الطبقة الأولى القادرة على استخراج الأحكام من الكتاب والسنة، والتي تقيس وتفتي بالمصالح المرسلة، وتستحسن، وتنهج نهجاً خاصاً في استدلالاتها، ولا تتبع أحداً في ذلك.
وأما صاحب هذا الشرح فهو الإمام محمد بن عبد الله بن أحمد الخطيب، التمرتاشي، الغزي، الحنفي. كان إماماً فاضلاً، كبيراً، حسن السمت، جميل الطريقة، قويّ الحافظة، كثير الاطلاع. وأمّا تسميته بالتمرتاشي، فقد ذهب ابن عابدين إلى أنها نسبة إلى جدّه تمرتاشي وتُمُرتاش قرية من قرى خوارزم. ولد في غزّة سنة (939 هـ / 1532 م) نشأ نشأة طيبة في بيت كريم، بيت علم ودين، كان شغوفاً بطلب العلم، مكبّاً عليه، ولم يكتف بأخذ العلم عن العلماء في بلده، بل قام بشدّ الرحال أربع مرات إلى القاهرة ليأخذ علماً منها. أخذ علمه من عدد من العلماء من قبل: شمس الدين بن محمد بن علي، أبو عبد الله الغزي الشافعي المعروف بابن المشرقي. مفتي الشافعية في غزّة. وزين الدين محمد بن أبي بكر الشهير بابن غيم المصري، الفقيه الحنفي، والإمام أمير الدين محمد بن عبد العال الحنفي، الدرّس والمفتي والذي وقف الناس عند قوله. وعلي حلبي بن أمر الله بن عبد القادر الحميدي الرومي، القاضي بعسكر أناضولي الشهير بابن الحناي الذي كان إماماً عالماً بليغاً، واسع المعرفة، ميالاً للأدب والشعر، ولي قضاء دمشق ثم قضاء أدرنة ثم اسلام بول، ثم قضاء العسكريين.
وقد تخرّج على يد الإمام التمرتاشي عدد من التلاميذ. توفيّ مخلفاً وراءه العديد من المصنفات، في مختلف المواضيع: العقيدة والتصوف والفقه وأصوله. ونظراً لأهمية هذا الشرح فقد تم الاعتناء به ضبطاً وتحقيقاً، وجاء المنهج في تحقيقه على الشكل التاني: 1- نسخ الكتاب ومقابلته على أربع نسخ خطية واحدة منها خاصة بالحنفي، 2- تخريج الآيات من المصحف ثم الأحاديث والآثار وإحالتها إلى مظانها في الكتب الحديثية، 3- عزو النصوص إلى قائلها، 4- التعليق على المواطن التي بحاجة إلى تبيان، 5- شرح الألفاظ الغريبة من مصادرها، 5- وضع مطالب بعناوين مناسبة، 6- ترجمة صاحب المتن والشارح ثم التعريف بالبلدان والأعلام.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد