إنَّ الفقه الإسـلامي، من طبيعته وشـأنه النمو والتطور والمرونة، وذلك سرُّ بقائه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان ومكان، ولو كان الأصل فيه الثبات من كل وجه، والوقوف على حالة واحدة، والبقاء في صورة جامدة، لكان حاملاً في طيَّاته بذور انقضائـه، وعناصر انقراضه، وهو ما لم يقع ولن يقع،...
إنَّ الفقه الإسـلامي، من طبيعته وشـأنه النمو والتطور والمرونة، وذلك سرُّ بقائه وخلوده، وصلاحيته لكل زمان ومكان، ولو كان الأصل فيه الثبات من كل وجه، والوقوف على حالة واحدة، والبقاء في صورة جامدة، لكان حاملاً في طيَّاته بذور انقضائـه، وعناصر انقراضه، وهو ما لم يقع ولن يقع، لأنَّ مورده الأصيل، ونبعه الثر الفياض، هو الوحي الرباني. والأحكام الشرعية نوعان: ثابت، ومتغير؛ فأما الثابت فهو الأمور الاعتقاديـة، وكذا ما دلَّت عليه قـواطع الأدلة من الفروع الفقهية، وأما المتغير فهو ما وقع استنباطه من النصوص الظنية أو الأدلة المختَلف فيها، وما بُني على الحاجة أو المصلحة أو العرف. وهـذا النوع المتغير هو الذي يقع فيـه اختلاف الفقهاء في العصر الواحد فضلاً عن العصور المختلفة، وتتباين أنظارهم واجتهاداتهم فيه بحسب الأفهام والظروف والأحوال، ووجوه المصالح والمفاسد. هذا وحيث كان النمو والمرونة والتطور سمةً بارزةً واضحة القسمات في موكب الفقه الإسلامي الحافل على مدى العصور والدهور، فإننا في هذا العصـر في أمسِّ الحاجة إلى اسـتبقاء هذه السمة ملازمة له في كل مجال، وخصوصاً على صعيد المعاملات المالية، والأدوات والأساليب الاسـتثمارية؛ لتكفل له الخلود والبقاء، ودوام تحقيق مصـالح الأمـة، والوفاء بحاجاتها. والأصل في أبواب المعاملات المالية وصنوف الأدوات الاستثمارية الإباحة، ما لم يرد دليل شرعي حاظر، ومن المعلوم أن نصوص الكتاب والسنة لم تأتِ إلا بالخطوط العريضة فيها، والمبادئ والكليات والقواعد التي تنتظمها، وتركت أمر التفريع عليها والتوسيع والابتكار إلى الاجتهاد، في ظلِّ الحاجات الإنسانية المتجددة، ومصالحهم الراجحة، وأعرافهم السائدة، ومتغيرات الظروف والأحوال في الأزمنة والأمكنة. ثم إن المعاملات المالية في الإسلام تحكمها جملة من الضوابط الأخلاقيـة، فالقيم والأخلاق الإسـلامية هي في الواقع روح الاقتصـاد الإسلامي؛ لأنها حقائق تدخل إلى العقول والقلوب، والإسلام لا يتصور الفصل بين الأخلاق والاقتصـاد، ولا يتصور قيام اقتصـاد في ظله بغير أخلاق، ولذلك نجد ذلك التعانق الرائع بينهما في ظل الإسلام. ومن هـذه الأخلاق التي جاء بها الإسـلام (الوفاء بالوعـد) حيث امتدح إنجاز الوعد والوفاء به، وجعل هذا الخُلُق صفةً من صفات الأنبياء والمرسلين، وسمةً من سمات المؤمنين الصادقين،وتبرز أهمية الوفاء بالوعد والالتزام به في هذا العصر، الذي انتشرت فيه المصارف الإسلامية انتشاراً واسعاً، وصارت محطَّ أنظار المستثمرين، وشـهد هذا العصر ولادة ألوان وأشكال كثيرة من المعاملات المصرفية القائمة على أساس الوعد، كبيع المرابحة للآمر بالشراء، والإجارة المنتهية بالتمليك، والاعتماد المسـتندي …إلخ، وموضوع الوفاء بالوعد في المعاملات الشرعية مطروح على مائدة الحوار والاجتهاد قديماً وحديثاً، وكان الخلاف بين العلماء ولا يزال يدور في اتجاهين: الاتجاه الأول: يتمثَّل في محاولة إبقاء الوعد والوفاء به في ساحة الحكم الدياني فقط، وضمن دائرة مكارم الأخلاق التي يستحب الوفاء بها. الاتجاه الثاني: يتمثَّل في محاولة الانتقال بالوعد من ساحة الحكم الدياني إلى سـاحة الحكم القضائـي، ومن دائرة المندوبات إلى دائـرة الواجبات؛ تمشياً مع هذا العصر الذي ضعف فيه الوازع الديني، ويكون ذلك وسـيلة لضبط المعاملات واسـتقرارها، وفي هذا تحقيق لمصالح الناس ودفع ضرر الخلف عنهم، فكان لا بدَّ من تحديد مسار الوعد وبيان أثره في المعاملات الشرعية. ولأهمية الموضوع من الناحية الشرعية والعملية، جاءت هذه الدراسـة الفقهية المقارنـة لتجمع شـتات هذا الموضوع من ثنايا أبواب الفقه الإسلامي المختلفة، وتعرض الاتجاهات الفقهية الواردة فيه، مع الاستدلال والمناقشة والترجيح لما يترجح منها، مما يساعد في تكوين نظرة كلية لموضوع الوعد وأثره في الفقه الإسلامي.