تهدف التشريعات العقابية؛ سواء على مستوى الشريعة الإسلامية، أو القوانين الوضعية إلى المحافظة على سلامة المجتمع، وأمنه، واستقراره، ووقايته من كل أشكال الجريمة والإجرام، مما يستدعي إنزال أشد العقوبات على كل من يشكل خطراً على أمن المجتمع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تهدف إلى عدم...
تهدف التشريعات العقابية؛ سواء على مستوى الشريعة الإسلامية، أو القوانين الوضعية إلى المحافظة على سلامة المجتمع، وأمنه، واستقراره، ووقايته من كل أشكال الجريمة والإجرام، مما يستدعي إنزال أشد العقوبات على كل من يشكل خطراً على أمن المجتمع، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تهدف إلى عدم مساءلة أي شخص من الأشخاص إلاّ بناءً على اقترافه فعلاً ما منصوصاً على العقاب عليه بنصوص صريحة، وهي معادلـة من الصعب تحقيقها؛ لذا فإن غالبية التشريعات حددت عقوبات معينة على كافة الجرائم، التي تمسّ المصالح، والحقوق الأساسية، التي بصيانتها يتحقق للمجتمع أمنه واستقراره، وحددت بدقة كافة الأركان والشروط التي يجب توافرها في جريمة ما حتى يمكن مساءلة مقترفها، حيث جعلت للجريمة ثلاثة أركان أسـاسـية تقوم عليها، وبتخلـف واحـد منها ينتفي عن الفعـل الصـفة الإجرامية، هذه الأركان هي: الركن الشرعي: وهو النص الذي يصدره المشرع بتجريم سلوك معين، ومنع إتيانه، وتحديد عقوبة لمرتكبه. والركن المادي: ويتمثل في المظهر الخارجي لنشاط الجاني، أو هو عبارة عن السلوك الإجرامي الذي يكون مناطا للتجريم. والركن المعنوي: وهو الجانب الشخصي أو النفسي للجريمة، حيث لا تقوم الجريمة بمجرد قيام الواقعة المادية التي تخضع لنص التجريم، ولا تخضع لسبب من أسباب الإباحة، بل لابد أن تصدر هذه الواقعة عن إرادة فاعلها. وإذا كان بيان الجوانب المتعلقة بالركنين الشرعي والمادي تبدو سهلة يسيرة، فإن كل ما يتعلق بالركن المعنوي معقد جداً؛ لأنه يتعلق بأمر داخلي يضمره الجاني في نفسه، ولا يمكن الاطلاع عليه، وهو ما يفسر اتجاه جلّ الدراسات الحديثة في مجـال التشريـع الجنائـي، وعلمَيْ الإجـرام والعقاب إلى التركيز على الجـوانب المعنوية في الجريمة. وإذا كان الركن المعنوي في الجريمة بصورتيه ـ العمد، والخطأ ـ من أعقد أبحاث التشريع الجنائي، فإن أبحاث القصد الجنائي هي أعقد الأبحاث، وأدقها على وجه الإطلاق. يقول رؤوف عبيـد: ’والقصد الجنائي هو على أية حـال حجر الزاويـة في البنيان العقابي كله في الشرائع الحديثة، ذلك أن الجريمة وإن كانت تقوم أصلا على نشـاط مادي من الجانـي، بالإضافة إلى حالـة معنوية معيّنـة، إلا أن العناية بالناحيـة المادية أخذت تخلي السبيل تدريجياً في هذه الشرائع ـ وفي الدراسـات التي تقوم عليها ـ للعناية بالناحية المعنوية بشكل متزايد شيئاً فشيئاً. ولا غرابة في ذلك؛ إذ لوحظ أن القصد الجنائي يقع في الأساس من كل نشاط آثم، وقد يكشف وحده عن مدى خطورة صاحبه‘( ). ونظراً لهذه الأهمية الكبيرة التي يكتسيها القصد الجنائي ـ العمد ـ، ومدى الخطورة التي يمكن أن يبلغها الكلام فيه؛ فإنه من المفيد بحث هذا الموضوع، وسبر غوره، والإحاطة بكل الجوانب المتعلقة به من قريب أو من بعيد، سواء على مستوى الفقـه الإسلامي، أو القوانيـن الوضعية بصفة عامة، وصياغة ذلك ضمن نظرية عامة متكاملة. وللوصول إلى ذلك لابد من تحديد حقيقة القصد الجنائي في كل من الشريعة الإسلاميـة والقانون الوضعي (أولاً)، ثم تحليل العناصر التي يقوم عليها (ثانياً)، وأخيرا بيان الصور التي يظهر بها. وأشير إلى أن المقارنة قد عقدتها بين آراء فقهاء الشريعة الإسلامية وفقهاء القانون أولاً، ثم بينها وبين التشريع الجزائري، هذا الأخير الذي لا يختلف كثيراً عن التشريعات العربية التي لا تعتمد الشريعة الإسلامية كمصدر أول للتشريع. ومن الجدير بالذكر أن فقهاء الشريعة الإسلامية قد سبقوا فقهاء القانون في بيان القصـد الجنائي في كل جريمة من جرائم الحدود والقصـاص، وخاصة فـي جريمة القتل العمد، إلاّ أنهم لم يضعوا نظرية تشمل جميع الجرائم كما فعل فقهاء القانون؛ لذلك بادرنا لبحث هذا الموضوع، وجعلنا من: القصد الجنائي في الفقه الإسلامي مقارنة بالقانون الوضعي عنوانا لهذه الرسالة، آملين أن نكون قد أسهمنا في خدمة هذه الشريعة الغراء، وخدمة الباحثين في مجال الشريعة والقانون.