سادت المفاهيم التقليدية والليبرالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأوائل القرن الماضي، والقائمة على فكرة حياد المسائل الإقتصادية والإجتماعية.إلا أن الدولة اليوم وفي أكثر البلدان تمسكاً بالنظام الرأسمالي، أصبحت مضطرة بحكم واقعها الداخلي والخارجي، لأن تتدخل في الكثير...

سادت المفاهيم التقليدية والليبرالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وأوائل القرن الماضي، والقائمة على فكرة حياد المسائل الإقتصادية والإجتماعية.
إلا أن الدولة اليوم وفي أكثر البلدان تمسكاً بالنظام الرأسمالي، أصبحت مضطرة بحكم واقعها الداخلي والخارجي، لأن تتدخل في الكثير من الميادين الإقتصادية والإجتماعية، كاتخاذ تدابير لحماية صناعتها أو زراعتها، وفرض الضرائب والرسوم لغايات إقتصادية وإجتماعية، ومراقبة المصارف وتنظيم سياسة النقد والتسليف والإزدهار والإستثمار والأسعار ... لقد انتشرت في العصر الحديث مفاهيم العدالة الإجتماعية، وضرورة توزيع الدخل القومي توزيعاً عادلاً، ولم يعد بإمكان أية دولة أن تهمل الفئات الشعبية المحرومة دون أن تعاني من مشكلات أو ثورات إجتماعية.
وقد تبين أن المبادرة الفردية، قد تنجح وتحقق أرباحاً مادية، إنما على حساب المصلحة العامة، والتوزيع العادل للدخل القومي، وعدم استغلال مرافق البلاد ومواردها بصورة متوازنة، وهذا قد يؤدي إلى خلق أزمات إقتصادية وإجتماعية. لذلك أجمع المفكرون بأن الدولة التي كانت تقتصر مهامها على الوظائف الإدارية والقضائية والعسكرية، قد حل محلها دولة الرعاية الإجتماعية التي تبادر إلى التنمية والعدالة الإجتماعية.
إلا ان كل ذلك لا يتحقق إلا بالوسائل المالية، لبلوغ الإنماء. فهناك تلازم بين الديمقراطية والضرائب، بين النظام المالي والموازنة من جهة، والمشاربع الإنمائية والعدالة الإجتماعية من جهة أخرى. من هنا كان تعريف علم المالية بأنه العلم الذي يبحث في نشاط الدولة، عند استخدامها الوسائل المالية من نفقات وضرائب ... لتحقيق أهدافها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية ...
وبعد أن كانت القاعدة الأساسية في الموازنة هي التوازن بين النفقات والواردات، ولو حدث ذلك على حساب عجز مؤقت في الموازنة المالية. وهذا ما زاد في النفقات زيادة كبرى بحيث أصبحت تشكل جزءاً هاماً من الدخل القومي. إن ازدياد الإنفاق هو لتأمين المصالح العامة التي تطورت كثيراً عما كانت عليه في الماضي، هذه المصالح التي توسعت حتى شملت مختلف النواحي الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والمشاريع العمرانية الكبرى وحماية الإقتصاد ونشر العلم وحفظ الصحة العامة. وانسجاماً مع طبيعة التطور في مضمون علم المالية العامة والسياسة الإنفاقية واتساعها، تطورت أيضاً الواردات العمومية من كونها مصادر مالية، غايتها تمويل الإنفاق الحكومي، عبر توازن الموازنة، إلى وسائل مالية تتوخى الدولة من وراء اعتمادها، إلى تلبية المتطلبات الإنمائية للمجتمع. لقد أخذ علم المالية الحديث، يضفي على الواردات العمومية، إضافة إلى مضمونها المالي، مضموناً وظيفياً مهمته إرساء أسس العدالة والمساواة الإٌجتماعية بين المواطنين.
ومن أجل تحسين سياسة الإنفاق وتأمين الواردات وتوظيفها في إنماء المجتمع، تطور مفهوم الموازنة العامة للدولة من إطاره التقليدي (المالي) إلى الإطار الذي يجعل الموازنة، محور سياسة الدولة وبرنامج عملها الهادف إلى إرساء التوازن الإقتصادي والإجتماعي العام، ضمن إطار العدالة والمساواة بين المواطنين.
ولأن علم المالية العامة توسع وتشعب، وتداخلت فيه المواضيع المتعلقة بسياسة الدولة المالية لذلك كان لا بد من درس هذا الموضوع بالإستناد إلى التشريعات اللبنانية مقارنة ببعض التطبيقات القانونية في دول أخرى.
لذلك هذا الكتاب في علم المالية العامة والموازنة بنفقاتها وإيراداتها ضمن ستة فصول هي:
الفصل الأول: مفهوم المالية العامة ومواردها وتعريف الموازنة العامة وتطورها.
الفصل الثاني: قواعد تحضير الموازنة وهي توازن الموازنة ووحدتها وشمولها وشيوعها وسنويتها وشفافيتها.
الفصل الثالث: إعداد الموازنة من قبل السلطة التنفيذية.
الفصل الرابع: إقرار الموازنة من قبل السلطة التشريعية.
الفصل الخامس: تنفيذ الموازنة من قبل السلطة التنفيذية.
الفصل السادس: الرقابة على الموازنة من قبل الإدارة والقضاء والسلطة السياسية.