إن موضوع المسؤولية الجزائية هو أقرب مسائل القانون الجنائي إلى النظريات الفلسفية والإجتماعية التي تربط القانون بغيره من العلوم الإجتماعية والسياسية. فالقانون الجزائي هو ذلك الفرع من فرو ع القانون الذي يجرم بعض الأفعال، ويفرض عقوبات جنائية على من يرتكبها، فهذا القانون يدور...
إن موضوع المسؤولية الجزائية هو أقرب مسائل القانون الجنائي إلى النظريات الفلسفية والإجتماعية التي تربط القانون بغيره من العلوم الإجتماعية والسياسية. فالقانون الجزائي هو ذلك الفرع من فرو ع القانون الذي يجرم بعض الأفعال، ويفرض عقوبات جنائية على من يرتكبها، فهذا القانون يدور حول ثلاثة عناصر هي " تحديد الأفعال المحرمة ( الجرائم ) "، وتحديد الجزاء الجنائي ( العقوبات والتدابير ) – لكل جريمة، وتحديد الأشخاص الذين توقع عليهم تلك العقوبات ( المجرمين ). فدراسة القانون الجزائي تشمل موضوعات ثلاثة ( الجريمة والجزاء والمجرم )، ودراسة المجرم من وجهة نظر القانون الجزائي تدور حول المسؤولية الجزائية من حيث سببها وأسسها وعناصرها وشروطها ومحلها وأوصافها وتدرجها وموانعها. بيد أن المجرم لم يكن يحظى بعناية الباحثين في العصور القديمة، بل وفي بداية النهضة الحديثة، حتى أن فقهاء القانون الجنائي كانوا يقصرون إشارتهم إلى ( المجرم ) عند الكلام عن الركن المعنوي في الجريمة الذي يفترض صدور الجريمة عن شخص له إراده وتمييز. لكن الدراسات الحديثة والمعاصره أصبحت تعطي للمجرم أهمية خاصة، وذلك تحت تأثير المدرسة الإيطالية الحديثة ( الوضعية أو الواقعية )، وكذلك المذاهب المعتدلة التي جاءت وتأثرت ببحوثها، وبذلك لم يعد المجرم كما كان ينظر إليه كشرط من شروط الجريمة بل أصبح هو المحور الرئيسي للدراسات الجنائية كونه مصدر الخطر على المجتمع. ومنذ إتسعت الدراسات الجنائية المتنوعة وأصبحت لها ذاتيتها المستقلة عن دراسة القانون الجنائي ذاته، أصبحت دراسة المجرم في القانون الجنائي تتركز في موضوع المسؤولية الجزائية، أي دراسة الشروط التي يستلزمها القانون في مرتكب الجريمة لكي يكون مسؤولاً عنها جزائياً، ولكي يوقع عليه الجزاء الجنائي الذي حدده القانون لتلك الجريمة. ويتبين من موضع المشكلة المسؤولية في الدراسات الجنائية أنها تمثل حلقة الوصال بين القانون والعلوم الإجتماعية والجنائية التي تعني بدراسة المجرم، وهي بهذه الصفة تعد الممر الذي تعبر منه المذاهب الفلسفية و الإجتماعية إلى القانون الجنائي. فالمسؤولية الجزائية، وإن كانت مسألة قانونية ينظمها القانون بوضع شروط معينة للمسؤولية وتحديد حالات إمتناع المسؤولية، إلا أن هذه الشروط وتلك الحالات إنما هي ثمرة الأساس الفلسفي والإجتماعي الذي تقوم عليه المسؤولية، وهذا الأساس يتصل بمشكلة الحرية أو الإرادة الفردية، من حيث مبدأ وجودها الذي تتنازع فيه المذاهب الجبرية أو القدرية، من حيث مبدأ وجودها الذي تتنازع فيه المذاهب الجبرية أو القدرية، ومن حيث مدى خضوعها للظروف الإجتماعية والشخصية وسيطرة تلك الظروف عليها، تلك السيطرة التي تعتبرها المدرسة الوضعية سيطرة كاملة لا تترك مجالاً لحرية الإختيار، ومشكلة الحرية والإرادة هي في الواقع أحد جوانب المشكلة الكبرى التي تعالجها جميع المذاهب السياسية والإجتماعية والإقتصادية والأخلاقية والدينية وهي مشكلة علاقة الفرد بالمجتمع، ومدى السيطرة التي تملكها السلطة العامة، بإعتبارها ممثله للمجتمع، على الفرد، ومدى الإجراءات التي تستطيع فرضها عليهم حماية لمصالحها ودفعاً للأخطار التي تخشى أن تصيبها... لهذا كله نرى أن تطور الآراء والأفكار المتعلقة بالمسؤولية الجزائية كان ولا يزال مرآة تطور الفقه الجنائي خاصة، وتطور المذاهب الإجتماعية والفلسفية بصفة عامة. هذا مما دعى المؤلف إلى بحث أحكام المسؤولية الجزائية إبتداءاً من سبب وجودها وإنتهاءاً بحالات إمتناعها، معززياً شرحها بنصوص قانون العقوبات العراقي وبعض من القوانين العقابية العربية، وكذلك بعدد من قرارات محكمة التمييز في العراق.