إن البلاد المتمدنة التي انتشرت فيها الحضارة مقترنة بنشر راية العدل وأقيمت فيها الحدود مرتكزة على الرأفة يبني الإنسان لم يكن لها تلك المنزلة الرفيعة، ولم يتسع نطاق عمرانها إلا بعناية كل امرئ بالظروف التي تحيط به من سعدٍ ونحسٍ، وخيرٍ وشرّ، وعسرٍ ويسر، عناية فائقة نحرت في لحيتها سفينة حاله، متوخّيةً التيار الذي ينفع الأمة والبلاد...
فإذا تربعّ وزير في دست وزارة مثلاً، فلا يكاد يزايل كرسيّه حتى يلقي إلى أمته كتاباً بما دعاه صدره من الاسرار، وما وقف عليه من التجارب والإختيار؛ فيكون من قوله كالمرهم وضع على الكلوم فأطفأ حرارة قروحها، هذا نيازي القائد العثماني المشهور في دور الإنقلاب الدستوري؛ ألم يهدِ الأمة كتابه "خطرات نيازي" عقب أن اشتهر اسمه وذاع ذكره، وهذا سعيد باشا الذي تولى الصدارة العظمى وهو الآن سنة (1910) رئيس مجلس الأعيان ألم يهد الأمة كتاباً "خطرات سعيد"، وقد أودع كل منهما فيما كتب أسراراً ومعلومات تفيد الأمة في حاضرها ومستقبلها... [...].
هذا ما استهل به المؤلف كتابه هذا... وهذا هو ديدنه وهدفه... فلم تكد تُفتح له أبواب السجن... ويعود ما سلب من حريته الشخصية حتى أخذ ينشر على الناس في جريدة العلم، التي هي اللسان الرسمي للحزب الوطني، ما دعت ذاكرته خلال الستة عشر شهراً التي لبثها سجيناً، وقد رأى جعلها لكل شهر مقالاً، فكانت عدتها طباقاً لعدة شهور...
مشيراً أنه ولما رأى الطبقة التي يُعتدّ برأيها من المشتغلين بالقانون يرغبون في جمع ما نشره في مجلد يحفظ للرجوع إليه على مدى الزمان ليكون برهاناً على سوء الإدارة الإنكليزية في السجون المصرية... أجابهم إلى رغبتهم مع توسعه في الموضوع، دون أن يقتصر على جمع المقالات الست عشرة التي نشرها في جريدة العلم؛ بل حذى حذو المقريزي المؤرخ الإسلامي، وجون هوارد المصلح الإنكليزي، وسواه من أمثال بلاكستون وينتام وايدن... وغيرهم ممن كانت لهم الباع الطولى في الدفاع عن سكان السجون.
ولا جرم أن هذا أول كتاب من نوعه أخرج للناس في اللغة العربية، وقد قسمه إلى ثلاثة أجزاء، اشتمل الأول منها على أربعة فصول اشتمل على مناجاة الحرية وبحث عن تعريف السجون لغة، والثاني في تاريخ السجون قديماً، وفيه كلام عن ستة أنواع من السجون، والثالث فيه بيان مستفيض عن سجون انكلترا وأسماء مصلحيها ونظام العلاقة بنتام، وتقسيم المسجونين، والفصل الرابع في سجون فرنسا، وتاريخ سجن الباستيل، وسجون أمريكا وأنواع سجون أوروبا، وسجون البلجيك والنمسا وإيطاليا وألمانيا والدولة العلية، ثم كلام إجمالي عن سجون بقية الممالك.
أما الجزء الثاني فقد تم تقسيم إلى أربعة فصول، فالأول في بيان الطريقة التي وصل بها الكاتب إلى السجن وأدوار القضية الأولى ومرافعات النيابة والمحاماة والحكام في الدرجتين الأولى والثاني وكذلك القضية الثانية.
والفصل الثاني فيه بيان مركزي في السجن ووصفه ومن هم زملاء الكاتب، وزيارته ومعاملته أكلاً ومناماً وعملاً مع بعض رجال النيابة، والفصل الثالث عن سلوكه في السجن، وحكاية العفو والمضايقة، وعودة صدور جريدة القطر المصري... والفصل الرابع فيه كلام عن انتقاله أي الكاتب إلى سجن الإستئناف وما رأى فيه ومن رأى.
والجزء الثالث انقسم إلى أربعة فصول؛ وفيه عدة آراء عن السجون المصرية؛ منها رأي محمد رفعت باشا؛ وكيل مصلحة السجون السابق، ورأي محمد قطبي بك الوكيل الحالي، ورأي الأستاذ الشيخ عبد العزيز جاديش، ثم كلام عن ماهية السجون قبل الإحتلال، وحادثة المرحوم الإمام الشيخ محمد عليش عن علماء الأزهر الذي رفض قبول العفو عنه في السجن ثم لائحة السجون.
والفصل الثاني: فيه كلام عن الإحتلال والسجون الحاضرة، وأقوال اللورد كرومر عنها من سنة (1902) إلى سنة (1906)، وأقوال السر ألدون غورست من سنة (1907) إلى سنة (1909)... ثم كلام مفصل عن السجون في عام سجنه (الكاتب).
والفصل الثالث فيه ذكر الاسباب التي حدثت بالكاتب إلى تأليف هذا الكتاب، وتفصيلات عن هياج المسجونين في سجن الحضرة بالإسكندرية... والفصل الرابع في أحاديث المسجونين ومكاتباتهم، وحقيقة حافظ نجيب المحتال...
هذا ما اشتمل عليه هذا الكتاب الذي يطرحه الكاتب... سارداً فيه ما انطوت عليه تجربته في السجن في عهد الإحتلال الإنكليزي.