"فإن التفقه في الدين منزلة لا يخفى شرفها وعلاها، ولا تحتجب عن العقل طوالعها وأضواها، وأرفعها بعد فهم كتاب الله عزّ وجلّ المنزل، البحث عن معاني حديث نبيّه المرسل، إذ بذلك تثبت القواعد ويستقرّ الأساس، وعنه يصدر الإجماع ويقوم القياس، وما تقدّم شرعاً تعيّن تقديمه شروعاً، ولما...

"فإن التفقه في الدين منزلة لا يخفى شرفها وعلاها، ولا تحتجب عن العقل طوالعها وأضواها، وأرفعها بعد فهم كتاب الله عزّ وجلّ المنزل، البحث عن معاني حديث نبيّه المرسل، إذ بذلك تثبت القواعد ويستقرّ الأساس، وعنه يصدر الإجماع ويقوم القياس، وما تقدّم شرعاً تعيّن تقديمه شروعاً، ولما كان محمولاً على الرأس لا يحسُن أن يُجْعل موضوعاً، لكن شرط ذلك عندما أن يحفظ هذا النظام، ويُجعل الرأي هو المؤتم والنصّ هو الإمام، وتردّ المذاهب إليه، وتضمّ الآراء المنتشرة حتى تقف بين يديه، هذا ما ذكره ابن دقيق في كتابه "شرح الإلمام".
وعليه، فإن إستنباط الأحكام الشرعية تقوم على أسس وقواعد مرعية، مقرَّرةٍ ومضبوطة بإحكام، لكل فقيه مجتهد إمام، فأطلق العلماء على هذه الأسس والقواعد علم أصول الفقه، ورائد هذا العلم هو الإمام الشافعي؛ وإلى هذا أشار البيهقي، حيث قال: الشافعي رحمه الله أول من صنف في أصول الفقه.
وفيما يتعلق بترجمة هذا الإمام، التالي: هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد منان ابن قصي بن كلاب، أبو عبد الله القرشي المطَّلبيّ الشافعيّ المكي، الغزيّ المولد.
فهو يلتقي مع نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبد مناف، لُقِّب بمكة: ناصر الدين، وفي بغداد: ناصر الحديث، ولد في غزة أو عسقلان سنة 150هـ، توفي أبوه شابّاً، فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين، فنشأ في مكة، وأحب في صباه الرمي وطلب العلم، فبرزت نباهته وقوة حافظته، طلب الشافعي العلم على كبار شيوخ مكة والمدينة، وفي سبيل ذلك رحل إلى بغداد ومصر.
وقد أثنى العلماء على الإمام الشافعي، فقال شيخه الإمام مالك بن أنس: ما يأتيني قرشيّ أفهم من هذا الفتى؛ يعني الشافعي، وقال حسين الكوابيسي: وما كنا ندري ما الكتاب ولا السنة نحن والأولون حتى سمعنا من الشافعي الكتاب والسنّة والإجماع، ومن أشهر مصنفاته: "إبطال الإستحسان"، و"إختلاف الحديث"، "الأم"، و"جماع العلم"، و"الرسالة"، و"فضائل قريش"، و"المسند".
وهذا ويعتبر هذا الكتاب "الرسالة" من أشهر كتب الإمام الشافعي، وهو يختص بعلم أصول الفقه، حيث يتناول فيه كثيراً من مباحثه، كحجية الكتاب، والسنّة، والإجماع، والقياس، والإجتهاد، وخبر الواحد، والناسخ والمنسوخ، والإستحسان، وغيرها من مباحث الأصول.
ويرى الباحثون أن كتاب "الرسالة" ألّفه الشافعي مرتين؛ الأولى - وهي الرسالة القديمة - في بغداد، والثانية - وهي الرسالة الجديدة، في مصر، والأولى مفقودة، والثانية هي التي بين يدي القارئ، وإن موضوع الرسالتين هو مباحث أصول الفقه، وقد أثنى على كتاب الشافعي "الرسالة" كثير من العلماء.
هذا وقد استطاع نظام محمد صالح اليعقوبي، وبتوفيق من الله تعالى، الحصول على نسخة ملونة من النسخة الخطيّة الفريدة المعتمدة من كتاب "الرسالة"، مكتوبة بخط الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي سنة (256هـ)، والتي كانت محفوظة بدار الكتب المصرية، ورقمها (6546)، وتتكون من ثلاثة أجزاء، وعدد أوراقها (78)، منها (62) هي أصل الكتاب، والباقي أوراق زيدت في أولها وآخرها، وكتب فيها السماعات وغيرها، وخطّها واضح مقروء لمن خبر الخطوط القديمة، إلا في بعض المواضع.
وقد قام اليعقوبي بطباعة هذه النسخة الخطية النفيسة من كتاب "الرسالة" التي بين دفتي هذا الكتاب، والهدف من ذلك: أولاً: المنزلة العلمية المرموقة للإمام الشافعي، فهو أحد أئمة الفقه وأصوله، والحديث واللغة، وإليه ينسب المذهب الشافعي، ثانياً: مكانة كتاب "الرسالة" بين كتب أصول الفقه، فقد ذكر العلماء أنه أول كتاب في علم أصول الفقه، ومن الف بعده في هذا العلم أفاد منه وبنى عليه ثالثاً: القيمة الفريدة لهذه النسخة الخطية، فهي مكتوبة بخط الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي سنة (265هـ)، وقد حدّث على سماعات وبلاغات لكبار العلماء، رابعاً: تعتبر هذه النسخة النفيسة أصلاً ومرجعاً لطلاب العلم الشرعي عند إختلاف النسخ المطبوعة التي بين أيديهم، خامساً: إن هذه النسخة الخطية مفيدة لكل من له إهتمام بالمخطوطات العربية والإسلامية، حيث أنها تعدّ مثالاً حياً لكل من يريد التعرف على المنهج الذي كان يتّبعه العلماء في نسخ الكتب، ومقابلتها، وكتابة اللحق والتصحيحات، والبلاغات والسماعات، وغير ذلك مما يتعلق بهذا الفن، سادساً: يعدّ مشروع طباعة النسخ الخطية النفيسة أحد أهم المشاريع الحضارية الكبرى التي تحفظ للأمة تراثها من الإندراس، وتعرف العالم بقيمة هذا التراث وأصالته.
هذا وقد تمثل العمل في إخراج هذه النسخة النفيسة فيما يلي: 1-ترقيم أوراق هذه النسخة باللون الأحمر في الأعلى، 2-إدراج أرقام مسائل كتاب "الرسالة" في هوامش صفحات النسخة الخطية، بالإعتماد على النسخة المطبوعة التي حققها الأستاذ أحمد شاكر، 3-تذييل هذه النسخة بالفهارس العلمية المناسبة، والتي تسهل على مطالعها الوصول إلى مراده ومبتغاه، 4-كتابة مقدمة تشتمل على تعريف موجز بــ "الرسالة" للإمام الشافعي، مع ترجمة موجزة لمصنفها، ووصف النسخة الخطية، وبيان العمل في طبع هذه النسخة.