لم تبدأ نشأة التدوين في العلوم الإسلامية إلا بعد عصر الصحابة ، حيث أولى الصحابة جلّ اهتمامهم للعناية بحفظ القرآن وتدوينه ؛ إلا أن حركة الوضع التي ظهرت في عصر التابعين من بعدهم لم تترك للتابعين الخيار في قبول أو رفض فكرة التدوين . فكان أن بدأ تدوين السنة في عصر عمر بن عبد...
لم تبدأ نشأة التدوين في العلوم الإسلامية إلا بعد عصر الصحابة ، حيث أولى الصحابة جلّ اهتمامهم للعناية بحفظ القرآن وتدوينه ؛ إلا أن حركة الوضع التي ظهرت في عصر التابعين من بعدهم لم تترك للتابعين الخيار في قبول أو رفض فكرة التدوين . فكان أن بدأ تدوين السنة في عصر عمر بن عبد العزيز على يد أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم وإبن شهاب الزهري وغيرهما . أما تدوين المسائل الفقهية ، فإنه لم يظهر إلا بعد تدوين السنة ، وكذلك الحال بالنسبة لتدوين القواعد الأصولية ، وذلك في الفترة التي نضج فيها البحث في الفقه الإسلامي ، وشهد أوج عطائه وقمة ازدهاره وذلك في عصر الأئمة المجتهدين ، وتكونت المذاهب الفقهية . وقد ابتدأ تصنيف الفقه في أول الأمر مختلطاً بالسنّة النبوية ، وما أثر عن الصحابة التابعين ؛ لأن السُنّة هي أقوال الصحابة والتابعين مادة الفقه ، وخير مثال لهذا النوع من التصنيف موطأ الإمام مالك ، ومن أمثلة هذا النوع كتاب " الجامع الكبير " لسفيان الثوري ، وكتاب " إختلاف الحديث " للشافعي ، وكما جرى تدوين الفقه ، فقد جرى كذلك تدوين علم أصول الفقه على يد الإمام محمد بن إدريس الشافعي الذي أملا على تلاميذه أول كتاب في هذا العلم ، ألا وهو كتاب " الرسالة " الذي ضمّنه كل مباحث هذا العلم تقريباً . وقد تميّز منهجه في هذا الكتاب بميزة خاصة ، وهو أنه يحكي أقوال من يناظرهم تامة بالحجة والبرهان ، ويفصل كل ما يمكن أن يكون لهم من قوة ... وليس أدل على ذلك مما كتبه في الإجتماع بالسنة له ولخصومه .. في هذا الدور كذلك ظهرت الإصطلاحات الفقهية التي كانت مدلولاتها تختلف بين مذهب وآخر .. وفي هذه المرحلة - أيضاً - اشتدت الصبغة النظرية في الفقه ، وظهرت فيه طريقة افتراض الحوادث قبل أن تقع ، وتقرير أحكامها سلفاً ، مما كان له أعظم الأثر في تضخم الفقه وتوسعه ، وشحذ الأفكار فيه . بعد هذا الدور جاء دور آخر ، شهد فيه البحث في الفقه الإسلامي وأصوله انهياراً متدرجاً ، حيث انعدم التجديد ، وماتت ملكة البحث عند الفقهاء .. وحلت محلها روح التقليد ، وفشت بين العلماء والعامة . وبذلك فنيت شخصيات الفقهاء في هذه المرحلة في شخصيات متوبيهم من الأئمة ، وماتت فيهم نزعة التفكير ، فصاروا مقلدين تابعين ، لا أئمة متبوعين .. إلا أنه لا يمكن إغفال تلك الحركة التي دعت بقوة إلى ترك التقليد الذي ران على العقول والصدور وإلى فتح باب الإجتهاد .. وأكثر الفضل يعود إلى رجلين عظيمين : شيخ الإسلام إبن تيمية ( ت 758 ه ) ، وتلميذه شمس الدين إبن تيم الجوزية ( ت 751 ه ) ، فقد حمل كل منهما على التقليد وأصله ، ودعا إلى بعث الإجتهاد والرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنه ومن قبلها دعا بالمغرب عبد المؤمن بن علي إلى التزام العلماء بالإجتهاد وعدم التقليد ، وفي سبيل ذلك أحرق كتب الفروع . هذا ونظروا لأهمية أصول الفقه بالنسبة لطلاب الدراسات الإسلامية وطلاب العلوم الشرعية على وجه الخصوص ، أو أن مادتي " الفقه " و " الأصول " هما أهم مادتين يتلقاها طلاب العلوم الشرعية في الجامعات والمعاهد الإسلامية ، تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يتضمن أبحاثاً تاريخية ونظرات منهجية في الفقه وأصوله ، حيث ينطلق الباحث من وصف واقع البحث الفقهي والأصولي في نشأته وتطوره ، وتحليل فترات الصعود والهبوط في هذا المسار .. كما يعمد أساساً إلى استقراء أهم النقائض التي أحاطت بالبحث الفقهي والأصولي منذ نشأته حتى العصر الحديث ، سواء منها تلك التي تتعلق بمنهج البحث ، أو الموضوعات المبحوثة في كتب الفقه والأصول أو حتى طريقة تدريس مسائل هذين العلمين ، وأثر تلك الطريقة في صخور الملكات الفقهية ، وتراجع حركة الإجتهاد . كما يعمل الباحث ، ومن خلال بحوثه هذه ، على ابراز المحاولات التجريدية عبر تاريخ البحث في الفقه والأصول ، والتي حاولت التخلص من تلك العيوب وعملت على طرح الموضوعات الفقهية والأصولية بمنهجية جديدة ، ومدى نجاح تلك المحاولات في تحقيق ما كانت تصبو إليه .. لينتهي الباحث أخيراً إلى طرح خطة عملية في سبيل العمل على تجديد البحث في الفقه والأصول بمنهجية جديدة ، تعمل على تلاقي تلك العيوب ، والتخلص منها في البحوث الجامعة اليوم ، وكذا في المناهج التعليمية في الجامعات والمعاهد الإسلامية .