إن البكاء آية من آيات الله عز وجل في النفس الإنسانية، مثله تماماً مثل الحياة والموت والخلق، فهو سبحانه الذي خلق البكاء وسبب دواعيه، وجعله ظاهرة نفسية عامة ومشتركة لدى جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ومذاهبهم وبيئاتهم، وإلى هذا، فإن البكاء لغة عالمية لا...
إن البكاء آية من آيات الله عز وجل في النفس الإنسانية، مثله تماماً مثل الحياة والموت والخلق، فهو سبحانه الذي خلق البكاء وسبب دواعيه، وجعله ظاهرة نفسية عامة ومشتركة لدى جميع البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وألسنتهم ومذاهبهم وبيئاتهم، وإلى هذا، فإن البكاء لغة عالمية لا تختلف باختلاف الألسن أو الثقافات أو البيئات، فالجميع يبكون بنفس الطريقة ولنفس الأسباب غالباً ، وهذا ما أفصح عنه القرآن الكريم بأجمل صورة في قوله تعالى [وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيا] . هذا فإن البكاء وتساقط الدموع في يوم من الأيام دليل ضعف ولا استكانة؟ بل هو رمز للنبل الإنساني في أرقى مشاعره والتعبير عنه. فهناك نظرة سلبية قائمة عند البعض، إذ يصور البكاء حالة مرضية تعبر عن اختلال في الشخصية، لذا يلزم علاجها واستئصالها، وهناك من يذهب زاعماً أن البكاء حالة من الذل والإنهزامية ، ولا يتوسل به إلا الضعفاء، وأما الأشداء منهم الذين يهيمنون على مآقيهم فيحبسونها عن أن تفيض دمعاً، ويؤكدون، وبشكل قاطع، أن البكاء حكر على النساء؛ أما الرجل فلا يبكي، بل أن البكاء حرام عليه! فهاتان النظرتان تتسمان بكثير من التطرف والبعد عن الواقع والإنصاف؛ لأنه ثبت علمياً، كم سيبين الباحث في دراسته هذه، أن البكاء يدل على استواء الشخصية لا على مرضيتها، طالما كان البكاء ممدوح عقلاً وشرعاً. وقد أودعت هذه الحالة في البشر بشكل واضح وجليّ إذ هو الوسيلة الناجعة في التنفيس والترويح عن النفس، وأن النظرة المعتدلة للبكاء هي في جعله حالة دالة على صحة وعافية نفسية. وبمراجعة الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي سترد في ثنايا هذا البحث، سيقف القارىء على حقيقة هامة؛ وهي أن البكاء كان سمة ظاهرة في حياة الأنبياء والأوصياء المؤمنين. وعليه، فإن البكاء شكّل موضوعاً من الموضوعات التي شغلت فكر الكتّاب والباحثين فشملوها بالدراسة والبحث الدقيق، وذلك في مظاهره في النصوص القرآنية والتي تحتوي على كنوز فكرية وعلمية وتربوية قيّمة، لم يكن القرآن قد كشف الغطاء عنها، ليثير في الباحثين وواقع النظر والبحث، وليترك للعقول مجال الحركة والتفاعل معها، ويظهر بوضوح أن هذه الآيات لها معانٍ أوسع وأعمق وأشمل مما فهمه السابقون، وذلك عند تجديد النظر فيها، في ضوء التطور العلمي والتقني وفي محاولة لفهمها فهماً عصرياً في ضوء العلوم الحديثة. ومن ناحية ثانية، وإذا ما دققنا النظر في الآيات القرآنية، من الناحية البلاغية، فإن جميع آيات القرآن الكريم - ومنها آيات البكاء بصيغة الجمع - بالغ الطرف الأعلى من البلاغة وأنها متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها، وأما تفاوتها في كثرة الخصوصيات وقلتها، فذلك تابع لاختلاف المقامات ومقتضيات الأحوال، فإن بلاغة الكلام ومطابقته لمقتضى الحال، والطرف الأعلى من البلاغة هو مطابقة الكلام لجميع ما يقتضيه الحال، وأن الباحث وعند إبرازه الإعجاز القرآني البياني في النصوص التي تناولت البكاء بصيغة الجمع، ليجد أن اختيار الألفاظ والأساليب قد ناسب الجو النفسي الذي يقتضيه الموقف، إذ جاء المعاني القرآنية مواظبة للألفاظ وكأن الألفاظ قطعت لها وسويت على حجمها، فضلاً عن إبرازه طائفة من الحقائق العلمية الدقيقة التي توصل إليها العلم الحديث اليوم . [ ... ] حول هذه المسائل تأتي هذه الدراسة التي يتناول الباحث من خلالها موضوع البكاء والقيم الجمالية له بصيغة الجمع في النصوص القرآنية. وقد تم ترتيب هذه المسائل ضمن اربعة فصول على النحو التالي: تناول الباحث في الأول منها مسألة حقيقة البكاء بما يشمل: تعريف البكاء، وأنواعه عند العلماء وأسبابه ودوافعه، وبأن البكاء سر من أسرار التكوين البشري. وتحدث في الفصل الثاني حول حقيقة الدموع بما يشمل: تعريف الدمع، مفهومه، وتساقطه في اصطلاح العلماء ومكوناته وأنواعه، والفوائد الطيبة لتساقطه (البكاء). ودار الفصل الثالث حول القيم الجمالية بصيغة الجمع في النصوص القرآنية بما يشمل: بكاء أصل الوجد بالقرآن من اصل الكتاب النجاشي وأصحابه، بكاء المخلفين عن الجهاد، بكاء العاجزين من الإلتحاق بالقتال، جمالية التعبير وبلاغته، بكاء أخوة يوسف عليهم السلام، تلاوة القرآن على علماء أهل الكتاب وبكاء الأنبياء عليهم السلام/ جفاء العين عند سماع القرآن الكريم. وأخيراً تحدث الباحث في الفصل الرابع عن فقه البكاء الجماعي عند سماع القرآن الكريم وقد شمل: طهارة الدموع، حكم البكاء عند قراءة القرآن أو سماعه، بكاء المرء لا يدل على صدق مقالته.