تستبيح نظرية المعرفة قيمة الحواس، تضطهدها، تختزلها، وذلك لمّا تجعلها مجرد ساعي بريد لدى الدماغ المتسلّط، وقد نسي أساطين هذه النظرية، إن الدماغ يضع حصيلة جهده الجبار بين يدي الحواس ذاتها، كي تمارس حقها الأصيل في الحياة.كل حاسّة حيّز لا يساوم في الدرجة الأولى إلّا على حقّه...
تستبيح نظرية المعرفة قيمة الحواس، تضطهدها، تختزلها، وذلك لمّا تجعلها مجرد ساعي بريد لدى الدماغ المتسلّط، وقد نسي أساطين هذه النظرية، إن الدماغ يضع حصيلة جهده الجبار بين يدي الحواس ذاتها، كي تمارس حقها الأصيل في الحياة.
كل حاسّة حيّز لا يساوم في الدرجة الأولى إلّا على حقّه من فضاء الحياة، بل من فضاء الوجود كله، ويعيش غبش معنى الحرية، الذي ينكدر بأن كل حاسّة من الحواس، تمتلك حقّها الجذري كموضوع متحيّز، كموضوع صارخ، كموضوع شاخص، كموضوع متبوع بذاته، ومن ثم كل حاسّة تمتلك حقّها من الإشباع، من الاتواء، بما يوازي طبيعتها ونهجها وطموحها.
المتعة الحسيّة تتخطّى ذاتها، ليس أنانية، متعة تشارك برصيدها الآخر، إنّ المتعة البصرية مثلاً، وأيّ متعة حسيّة منفردة، تسري بهدوء أو بسرعة إلى كل ذرة من ذرات الجسد، لأن كل حاسّة من الحواس اختصرت بذاتها الكيان البشري كله. الحواس طريقنا إلى العالم، هكذا نسمع، هكذا درجنا على التلقي، وهكذا اختمر في أعماقنا، ولم نراجع في يوم من الأيام هذه المصادرة، التي طالما ينقشها الفيلسوف على صفحات دفاتره المتعالية، ويرددها الخطيب، من على منصته الشامخة. بل تقرع أسماعنا بها مِطرقات القضاء، سواء كان عادلاً أو ظالماً، وتتحفنا وظائف الأعضاء بمعلومات في غاية الثراء، عن دور الحواس في التعرف على الأشياء، ألوانها، طعومها، ودرجات كثافتها، ومُدياتها، والموعظة الدينية تسمل العيون بحاجب الإقطاع، وترعب الآذان باستثناءات مجرمين مفترضين، وتعقل اللسان بحلاوة الجنّة المؤجلة، فنشأت حواس مرعوبة من المفترض، تواسي شهوتها المؤجلة باتقاء بطش موعود، وكأن الدين سوط المستقبل، وليس أملاً يفتش عن نفوس مترعة بالحيوية! إرهاب الحواس.. إنه إرهاب.. تمارسه مؤسسة الحياة المُخترعة، الفكر الذي يحتكر الحقيقة، الفلسفة التي غلّفت الحياة بنسيج الأوهام، الفهم الظلامي للدين، وكانت النتيجة حواسّ يلجأ إلى أمل الخلاص من فتنتها بالذات.. نعم... من فتنتها التي طبعها الله عليها، فتنتها التي هي مصدر إثراء العالم، فمن قال إنّ الحواس مجرّد جوف نهم، ومحتكر يستلذ بالسلعة المصادرة، وهل نسينا أن الحضارة نتاج الدماغ مستعيناً بالإبهام؟
الحواس مملكة الوجود، فما قيمة الماء الزلال لولا شفاه تتشرّب لذّته المنسابة؟ لا قيمة لها، هباء في صحراء، تبكي الشفاه العطشى! هل الوعد الإلهي بالجنة وعد روحي؟ إنّه وعد بعدوم الحواس، مع الباصرة والزائفة والشامة، مع الحسّ، مع اليد والرجل وكل عضو من أعضاء الجسد البشري. ذاك هو قانون الديّات في شرع الله تعالى، لا يعالج ولا يتعاطى مع الحاسّة جزءاً من كل، بل كيان بنيوي يجسد صورة لحياة الخاصة به.. [...].
في احتفاليته بالجسد الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم؛ يتناول الكاتب ماهيّة الحواس التي هي بداية المتعة، ونقطة مشروعها في الصميم... يمضي في فلسفته عميقاً ليرى أن من افتقد حاسة افتقد متعة، فثقافة الروح المفارق أقصت أهمية الحاسّة، فماتت الحاسّة وماتت معها الروح ذاتها... يتحدث الكاتب عن الجسد و ماهيته مسهباً.. خاتماً مغاليق الممفاهيم الانسانية التي أوصدت حواسها التي كرمها الله تعالى.. وحتى أن بعض العلوم تتفنن بتشريح الجسد لمعرفة سيره الآلي المحكوم بقانون السبب والنتيجة، فتختصر الجسد في دائرة مغلقة، تفرض عليه الخضوع لمسيرة مرهونة بالقدر، وتشل شوقه المتوقد إلى الخروج من عالم الأبعاد الثلاثة.. فالجسد شهقة تخترق عنان السماء لتغني السماء ذاتها برحيق الحياة.
يمضي الكاتب مسترسلاً في استجلاء غوامض هذا الكيان الإنساني.. هذا الإبداع الإلهي في محاولة لاعطائه حقه في التكريم.. وللكشف عن مكامن على الإنسان إدراكها ليدرك روعة الخلق العظيم وإبداعات الخالق... ابتداء من الجسد الإنساني وليس انتهاءً بالكون الذي يمثل فيه كل موجود.. جسد على الإنسان اكتشاف مغاليق أسراره.