إذا كان النص القرآني يمثل عناية السماء الفائقة بتنسيق شؤون البشرية؛ فإن هذا يوجب أن يكون هذا الخطاب الإلهي على قدر رفيع من الإبداع في بناء نسيجه اللغوي وعلى مهارة عالية في تحقيق مضامين ذلك النسيج.فالنصّ المقدس له ملكة متفردة من القدرة على إيصال المعلومة إلى الملتقى بأروع...
إذا كان النص القرآني يمثل عناية السماء الفائقة بتنسيق شؤون البشرية؛ فإن هذا يوجب أن يكون هذا الخطاب الإلهي على قدر رفيع من الإبداع في بناء نسيجه اللغوي وعلى مهارة عالية في تحقيق مضامين ذلك النسيج. فالنصّ المقدس له ملكة متفردة من القدرة على إيصال المعلومة إلى الملتقى بأروع فنٍ وأجمل تصنيفٍ سواء أكان ذلك على مستوى التقاط الصوت الأوفق للمعنى أم على صعيد تحرّي اللفظ المؤدي للمراد إنسجاماً والمرتكز العام للمضمون أو كان ذلك على نطاق إنسجام التركيب كلياً مع الغاية المرجوة منه، فإذا كانت هذه هي حال ذلك الخطاب فإن القول بإعجازه أمرٌ لا مناص من القول فيه والإقرار به. من هنا، كان الخطاب محطّ النظر وموئل التأمل منذ يوم إشراقه على البشر إلى الآن، فقد شغل هذا النص المعجز العقل العربي خاصة والغربي عامة، فعكف المهتمون بنطاقه والمعتنون بشؤونه على قراءته وضبط أصواته وتحرّي دلالات بناء مفرداته صياغةً والتقصي وراء إستكشاف مضامين تراكيبه والخوض فيه لمعرفة رابط موافقة الصوت أو المفردة أو التركيب للدلالة العامة للآية (دلالة السياق)، وداعي سبب النزول في إيضاح النص وغير ذلك فيما يناط بمعرفيات النص بياناً وكشفاً، إن هذه الإنشغالات جميعها وتلك الإهتمامات برمتها تلتقي في نقطة واحدة هي المرجع الأساسي لمنطلقها ألا وهي (تفسير النص وبيان دلالاته على إختلاف أنماط تلك الدلالة وتنوعها). وتأسيساً على نقطة الإلتقاء هذه ظهر ما يسمى بــ (علم التفسير) الذي يسعى إلى قرءة النص القرآني مضموناً؛ وإذا كان لا بد لكل عام من قواعد ثابتة يسير عليها ليستحصل بموجبها على مراده وجب - والحال هذه - أن يكون هناك منهج خاصةً بهذا العلم، هذا ولما كان النص المعجز متعدد الوجوه الدلالية تعدّدت على أساسه قواعد تلك الوجوه كلٌّ بحسبه، فظهرت على إثر ذلك تلك التعددات مجموعةٌ من المناهج التي تسعى جميعاً لتحقيق غاية بيان النص والكشف عن معانيه والتي هي مهمة علم التفسير أصالةً. من هنا، جاءت فكرة هذه الدراسة والتي هدف الباحث من خلالها الغوص في هذا التخصص المعرفي من التنظيرات القرآنية ألا وهو (مانهج تفسير النص القرآني)، علّه بذلك يضيء مسلكاً جديداً في هذا النطاق، أو الوقوف على تنظير كان بعد العلماء قد ألمح له على عجالة وله حاجة إلى تفصيل أو بيان في بعض مناحيه. وإذا كان المنطق العلمي يفرض - بناءً على مقتضياته - أن يكون لكلّ موضوع مستند علمي يقوم على أساسه فإن موضوع هذا الكتاب قد قام على مرتكزين وفرضيه وهي على النحو التالي: المرتكز الأول: يُعنى بدراسة تحديد مفهوم المنهج التفسير وبيان حدوده من خلال بيان المداخلات أو الملابسات التي وقع بها بعض العلماء أو الباحثين وهم في معرض بناء مفهوم هذا المنهج؛ مع الإفادة الكافية في ع ملية تحديد هذا المفهوم من مصنفات علوم القرآن الكريم والمدونات المعنية بمناهج التفسير القرآني، المرتكز الثاني: ألزم الباحث نفسه بإتباع المنهج العلمي، وذلك عندما وجد أن أكثر المؤلفات التي عنيت ببيان المناهج التفسيرية بالجانب التنظيري للمنهج أكثر من عنايتها بالجانب التمثيلي أو المصداقي له على أن يكون كتابه هذا ثرياً بالمصاديق التطبيقية من النصوص القرآنية لكل منهج من المناهج التفسيرية وذلك كي ترتبط النظرية المعروضة بالتطبيق، وذلك ليتسنى للملتقي فهم حدود مفهوم المنهج وعملية توظيفه عملياً لقراءة النص المقدس، وبالتجافي عن هذا المنحى التطبيقي يبقى المفهوم مشاباً بشيء من الغموض وعدم الوضوح إجمالاً. أما الفرضية التي يسعى الباحث إلى تحقيقها؛ أو التحقيق منها فهي تنصّ على أن أي منهج تفسيري لا يسعه أن يدخل إلى نطاق النص ويستجلي دلالته، مهما كان نمط إنتمائها أو وجه خصوصيتها - ما لم يستعمل منهج التفسير اللغوي إبتداءً، فهو المنطلق الأساس الذي يجب أن يسلكه المفسّر قبل الخوض في إستعمال أيّ منهج تفسيري يحاول به ذلك المفسّر مقاربة (معنى النص) المُنْتَسَبُ هوية إلى ذلك المنهج المراد إستعماله. وعلّه ذلك أن التعبير القرآني - ميدان القراءة - هو نصٌّ لغوي، ولمّا كانت اللغة هي أساس التعبير فيه وجَبَ من هنا فهم لغة النصّ إبتداءً قبل الخوض فيما ورائيات معنى الخطاب الظاهر من خلال إستعمال المنهج العقلي والعلمي والموضوعي والإشاري وغيرهم.