... وفلسفتنا، أي طريقة فهمنا العالم والحياة أو عدم فهمنا لهما، تنبع من شعورنا حيال الحياة ذاتها، ولهذه الحياة كما لكل ما هو عاطفي حذور تحت شعورية أو لا شعورية، وأفكارنا ليست في العادة ما يجعلنا متفائلين أو متشائمين، وإنما هو تفاؤلنا أو تشاؤمنا ذو المصدر الفلسفي والمرضيّ...
... وفلسفتنا، أي طريقة فهمنا العالم والحياة أو عدم فهمنا لهما، تنبع من شعورنا حيال الحياة ذاتها، ولهذه الحياة كما لكل ما هو عاطفي حذور تحت شعورية أو لا شعورية، وأفكارنا ليست في العادة ما يجعلنا متفائلين أو متشائمين، وإنما هو تفاؤلنا أو تشاؤمنا ذو المصدر الفلسفي والمرضيّ ربما، ما يشكل على حدّ سواء أفكارنا، يقال الإنسان حيوان عاقل، ولا أدري لِمَ لا يقال هو حيوان عاطفي أو ذو حساسية.
ولعلّ ما يميزه عن معظم الحيوانات الأخرى، الشعوري أكثر مما يميزه العقل، ولطالما رأيت قطاً يفكر، ولم أره يبكي أو يضحك، لربما يبكي أو يضحك في داخله، كما قد يحلّ سرطان، أيضاً، في ذهنه معادلات من الدرجة الثانية.
إذاً، هو إنسان ما ينبغي لنا أن نهتم به عند كل فيلسوف... وأن أكثر المشاكل مأساوية في الفلسفة هي المصالحة بين الحاجات العقلية وبين الحاجات العاطفية والإرادية.
ومن هنا، إخفاق كل فلسفة تزعم فك التناقض الأبدي والمأسوي وهو قاعدة وجودنا، لكن، أيواجه الناس كلهم التناقض؟ وهذا الإهتمام الأسمى لا يمكن أن يكون عقلياً خالصاً، بل لا بد له من أن يكون عاطفياً، لا يكفي التفكير في المصير، بل ينبغي لنا الشعور به، ومن يتطلع إلى قيادة إشباهه من البشر، ويقل ويعلن أنه لا يهتم بالقضايا السماوية، لا يستحق أن يقودهم، من غير أن يعني ذلك بالطبع، أن يطلب منه حلٌّ معين. حل! أم يوجد حلّ ربما؟ أما فيما يعنيني أنا، فلن أسلم قيادتي بإرادتي، ولن أمنح ثقتي أبداً قائد شعب ما إن لم يكن مدركاً عند قيادة شعب، أنه يقود بشراً، بشراً من لحم وعظم، بشراً يولدون ويتألمون ويموتون... بشرٌ هم غاية بحدّ ذاتهم وليسوا وسائل؛ فليس من الإنسانية مثلاً أن يُضَحّى بجيل من البشر من أجل جيل يلهم إذا لم يساورنا إحساس بمصير المضحّى بهم وليس الإحساس بذكراهم، ولا بأسمائهم، وإنما بهم ذاتهم.
رأى أحد المتحذلقين صولون Salon ببكي موت أحد أبنائه، فقال له: "لأي شيء تبكي هكذا، إذا كان البكاء لا يجدي شيئاً؟" فأجابه الحكيم: "من أجل هذا بالضبط، لأن البكاء لا يجدي"، البكاء بالطبع، له جدوى ما وإن يكن في التخفيف عن النفس، لكنا نرى بوضوح المغزى العميق لجواب صولون للمتحذلق، وأنا على قناعة بأننا قد نحلّ كثيراً من الأشياء إذا خرجنا جميعاً إلى الشارع، وعرضنا في النور آلامنا التي قد تبدو ألماً واحداً مشتركاً، ونشرع معاً في بكائها ونلهج إلى الله بالدعاء؛ حتى وإن أعرض عنّا فلسوف يسمعنا، وأقدس ما في معبد هو مكان يسعى إليه الناس للبكاء معاً، وإن صلاة: ارحمنا يا الله!... إذا أقامها جماعة حشد ممن أضنى عليهم القدر تساويه ما تساويه فلسفة...
هناك شيء نسميه لعدم وجود اسم آخر الشعور المأساوي بالحياة، يجرّ وراءه تصوراً كاملاً للحياة نفسها والعالم، وفلسفة كاملة مصوغة بقدر ما وواعية إلى حدٍّ ما؛ وهذا الشعور قد يمتلكه، ويمتلكه، ليس أفراد فقط وإنما شوعب كاملة، يحدّد هذا الشعور الأفكار أكثر مما ينبع منها وإن كانت هذه الأفكار تؤثر فيه بالطبع وتعزّزه... ولقد وجد بين البشر الذين هم من لحم وعظم نماذج نموذجية من هؤلاء من يمتلكون الشعور المأساوي بالحياة... وأحسب أن هناك شعوباً تمتلك الشعور المأساوي بالحياة...
شكل القلق الروحي للمؤلف أونامونو محور حياته، وجعل قراءاته المفضلة القديسين بولس وأوغسطين والصوفيين وباسكال وكيركفور، فكلٌّ من هؤلاء عانى أزمة روحية وإنقلابا في مجرى حياته.
يقرأ ميغيل ده أونامونو وبعمق الإنسان في حالاته الداخلية... يقرأ مشاعره وأحاسيسه بعمق، مستشفاً شعوره المأساوي الذي يلازمه في جميع مراحل حياته... في حالة الصحة والمرض... الحزن والفرح... ويقرأ الفلسفة وأصحابها ويقرأ بعمق الكون والوجود بأبعاده الإيمانية ليأخذ القارئ في رحلة في الأعماق السحيقة للإنسان... مسجلاً صراعاته الروحية التي تستعر دائماً والتي لا ينطفئ أوراها سوى بالإقرار بوجود خالق تركن روحه إليه... وتستقر نفسه بوجوده... وأما توق الإنسان إلى الخلود... فتلك مسألة ثانية يناقشها المؤلف لاهوتياً وفلسفياً لدى اللاهوتيين والفلاسفة والكتاب لينتهي لمناقشتها لدى الإنسان كإنسان يمتلك من المشاعر والأحاسيس ما يمتلك لتصور تلك الحياة الأبدية من خلالها.