يبتكر سليم بركات شعباً على طريقته، ويخترع له العراء مسكناً، ويختار له لحظة التكوين الأولى أصلاً وفصلاً؛ "معهم ذبابةُ القدّم يتصيدُ بها الغامضُ، في شصّه، حنكليسَ الأرواح".وبالرغم من صلادة القشرة الخارجية، نجد هنا جوهر الكلمة شفافاً، يضمر روحاً على وشك البكاء أو الإنكسار،...
يبتكر سليم بركات شعباً على طريقته، ويخترع له العراء مسكناً، ويختار له لحظة التكوين الأولى أصلاً وفصلاً؛ "معهم ذبابةُ القدّم يتصيدُ بها الغامضُ، في شصّه، حنكليسَ الأرواح". وبالرغم من صلادة القشرة الخارجية، نجد هنا جوهر الكلمة شفافاً، يضمر روحاً على وشك البكاء أو الإنكسار، وبركات يبري قلمَه بسكّين الدهشة، معتمداً اصطياد روح في كلّ دلالة، رافضاً السقوط في التكرار، واصفاً أحوال شعبه البطر، الذاهب في الحلم حتى حدود الخطر، وحتى خطّ الزّوال الأخير: "يقايضون شهباً داعرةً، في حانات الفلكِ الداعرِ، بميتات مهشّمة كالبطيخ على أكتاف الحمّالين". تشبه قراءة سليم بركت التزلجّ فوق جليد صقيل، إذ يجدُ القارئ نفسُه متحفّزاً دائماً للسقوط، ويرى التهلُكة بأمٌ عينه منحوتةً بإزميل الدهشة، وبلاغة بركات فريدةٌ حقاً في المشهد الشعري العربي، وبخاصّة أنها تؤسّس لقطيعة جمالية مع نصّ الأسلاف، قدامى وحداثيين، على حدّ سواء. فهذا الشّاعر، المولع بالنحت اللغوي، يتعمّدُ نسفَ الطرائق التقليدية في الكتابة، داعياً المتلقي إلى التخلّي عن يقينه الجاهز، والتأمّل في شبكة علاقات رمزية جديدة، قوامها كنايات تتدافعُ وتتطاحن، وتصدمُ، بلا ريب، الذائقة التقليدية، وتخلخلُ أسسَها الفنية. إذ ينبغي على القارئُ أن يكون مستعدّاً للغوص عميقاً في بحر إستعاراته المتلاطمة، التي تؤسّسُ لحساسية جديدة، وتذهبُ في النفي الدلالي إلى حدّه الأقصى، ما يصيبُ المعنى، كما نألفهُ، في مقتلٍ.