"لا تطرحي عليهم أسئلة أبداً، ولا ترتدي تنورة قصيرة". هذه هي النصيحة التي تلقتها الكاتبة إيزابيل فونسيكا قبل أن تبدأ رحلتها في بحث شاق لتلملم ما يصلح مادة لرواية سيرة الغجر من أحداث وتاريخ وأدب شفوي، وعادات وتقاليد وغيرها من فم أصحاب السيرة أنفسهم. وقد تلقت فونسيكا هذه...
"لا تطرحي عليهم أسئلة أبداً، ولا ترتدي تنورة قصيرة". هذه هي النصيحة التي تلقتها الكاتبة إيزابيل فونسيكا قبل أن تبدأ رحلتها في بحث شاق لتلملم ما يصلح مادة لرواية سيرة الغجر من أحداث وتاريخ وأدب شفوي، وعادات وتقاليد وغيرها من فم أصحاب السيرة أنفسهم. وقد تلقت فونسيكا هذه النصيحة من انثروبولوجي أجرى دراسات عن الغجر في مدريد مضيفاً: "طرح الأسئلة ليست طريقة في الحصول على أجوبة". وهي تقول أنها وقبل خمسة عشر عاماً، قامت بالتنقل في أرجاء أوروبا الشرقية مع جدتها التي تركت موطنها هنغاريا، وهي في سن الثانية، عام 1905. وهي تتذكر كيف خرجت من قطار الشرق السريع في بوادبست وتساءلت "ما الذي يفعله كل هؤلاء الهنود هنا؟ ذلك المساء وفي كل المساء آخر في هنغاريا، لتعرف بأنهم من الغجر. وتتابع الكاتبة سرد تفاصيل إحدى المشاهد بقولها كان ثلاثي موسيقي من الغجر ينحنون بآلات الكمان فوق مائدة طعامهم، وظل ذاك يتردد في ذهنها عن هؤلاء الهنود وهي تقول وأنه وعلى الرغم من انه لم يجر ذكرهم أبداً في الصحف، تشكلت لديها فكرة بان هؤلاء سيكشفون للعالم من حولهم أي نوع من الديموقراطيات، ستجلب القلاقل إلى أوربة الشرقية. وقبل ان تلتقي بأي غجري فعلاً، كانت فونسيكا على علم بأن ثمة اثني عشر مليوناً منهم في الشتات، موزعين في كل أرجاء العالم، ثمانية ملايين منهم يعيشون، ربما في أوروبا، وخاصة أوروبا الشرقية، يمثلون أكبر الأقليات في القارة، في منطقة تشتهر بنسب الولادة الثابتة والسلبية، كانت تعرف بأن الغجر يتكاثرون بأعداد ضخمة ومفزعة. ويتوقع أن يتضاعف عددهم، خلال السبع عشرة سنة القادمة، مضيفة بأنهم إنما ينظر إليهم كأول كبش فداء لجميع علل المجتمعات الشيوعية المتصدعة في مرحلتها الانتقالية البطيئة، إلا أنها تذكر بأن مئات الآلاف منهم ماتوا في الهولوكوست، وهم يواجهون مرة أخرى برامج في أوروبة الشرقية.
وبالعودة إلى بداياتهم تقولى فونسيكا بأن ظهورهم الأول كان، ولأول مرة في اوروبا، كان القرن الرابع عشر، عندها قدموا أنفسهم على أنهم حجاج يقرأون الفال، وهما مهنتان رابحتان في عصر يؤمن بالخرافة، كان رؤساؤهم يطلقون على أنفسهم كونطات وأمراء وقباطنة وموضحة تقول بأنها ليست تعبيرات عن القيم الغجرية، بقدر ما هي دلائل على موهبتهم (لطالما استخف بها) في تبني أمزجة ومراتب محلية من أجل الحفاظ على مكانتهم غير المستقرة باستمرار. من هنا فإن الحنين يعدّ جوهر الأغنية الغجرية، ويبدو أنه كان دائماً كذلك، لكن الحنين إلى ماذا؟ فكلمة (Nostos) هي المرادف الإغريقي "للعودة إلى الوطن"؛ لكن الغجر ليس لديهم وطن، وربما على نقيض جميع الشعوب الأخرى، ليس لديهم حلم العودة إلى وطن اليوتوبيا، تعني "لا مكان". فحنين الغجر هو الحنين إلى اليوتوبيا، فالعودة إلى الوطن، هي العودة إلى اللامكان، آه إلى الطريق الطويل، الطريق الطويل.
ربما كان التوق ذاته هو ما يتم الاحتفال به، التوق إلى ماضٍ لا وجود له (النوع الأكثر شيوعاً)، توق كهذا هو الدافع للارتحال. غير أن حنين الأغنية الغجرية مثقل بالقدرية، ثمة لازمة شعرية في أغنية غجرية صربية تقول: "جلجلة القدر/قادمة قريباً/دعها تأت/هذا لا يهم". وهكذا تتابع إيزابيل سردها لسيرة الغجر بأسلوب يمزج فن الأدب بعلم التاريخ وعلم الاجتماع والجغرافيا، دون أن يزيل ذلك من عنصر الإثارة والتشويق التي تبعثهما تلك السيرة في نفس القارئ إضافة إلى ثقافة يجنيها حول هذه الفئة التي تحاك حولها الأساطير والحكايات المكنفة بالغموض، أضف إلى ذلك تلك النبرة التي تتعالى لتمثل دفاعاً درامياً عن هؤلاء المحرومين المنفيين الذين يعيشون في غربة دائمة عن أنفسهم وعن مواطنهم. وكتاب فونسيكا هذا إنما يمثل كشفاً حقيقاً عن عالم مخبوء، عالم سري ومهمل في آن معاً، مقموع وغير معروف، يخرج إلى الضوء عبر هذه الصفحات المثيرة، وهي مكتوبة بعاطفة وحنان وبصيرة نفّاذة، ومسكونة بشخصيات حية رسمت بإبداع.