-
/ عربي / USD
تصف بدقة حجم ذلك الفيض من المحبّة والعطاء لجيلٍ كافح الأمرَّين لنحيا، وجاهد بكلّ ما هو ممكن لنصبح أفضل منه. وإن تحقّق ذلك في ميادين العلم، إنما هيهات أن يحدث ذلك في ميادين الصبر، الحكمة، العزيمة، طيبة القلب، ونقاوة الروح. وهل هناك غير الأب يحمل كلّ تلك الصفات والسمات مجتمعة؟ منذ أن بدأتُ أسبر أسرار هذه الحياة، وما أكثرها، كان والدي إلى جانبي لحظة بلحظة، حدثًا بحدث، أتكىء على زنده للنهوض بعد كلّ عثرة، على محبّته بعد كلّ هفوة أو خطأ، على حكمته بعد كلّ تجربة، على صبره بعد كلّ محنة، على عزيمته بعد كلّ معضلة على رضاه صباح كلّ يوم أستيقظ فيه معافى في جسدي وعملي. لذلك لست أبالغ إن قلت: إن أنفاسه لا تزال تعبق في قلبي وروحي، وخياله يلاحقني حاميًا وأنيسًا لي، أستعيد معه دومًا ذكريات جميلة تحت مظلّة العائلة والأهل والأقارب، وأستعيد أيضًا طيفًا واسعًا من المعرفة والثقافة والاجتهاد، لاسيما وأنني ورثتُ عنه حبّه للقانون، عشقه للمحاماة، إخلاصه للعدالة، وانحيازه للمظلومين على دروب الحياة. حتى وهو على فراش الموت، كان يعلّمني ويرشدني رغم عذاباته التي كان يخفيها عني. لم يستسلم كما يفعل كثيرون عادة، ظلّ حتى النفس الأخير يفكّر في المستقبل ليس تعلّقًا بحبال هذه الدنيا الفانية، وإنما زيادة منه في الاطمئنان عليّ، وعلى هذا الإرث الذي تركه من العلاقات الاجتماعية والمهنية القائمة على المحبّة والتسامح، وأنه أدّى رسالته في هذه الحياة على أكمل وجه. لا أرثيك هنا يا والدي، فمثلك لا يرثى، وقد ترك خلفه ما يجعله حيًا بين الناس بالذكر والحديث، علمًا ومعرفة، عملًا وسلوكًا، سيرةً وسمعة. وكتابك هذا ليس سوى غيض من فيض علمك، معرفتك، واجتهادك. وننشره اليوم ليبقى ذكرك محمودًا في الأرض...
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد