-
/ عربي / USD
ليس المقصود بالثقافة الثالثة - كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر - أن تكون تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين؛ بل يجادل بروكمان في أطروحته الفكرية بأن نموذج المثقف الشكسبيري الذي عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي حتى خواتيم العصر الفكتوري لم يَعُد صالحاً ليكون النموذج المبتغى في عصر ما بعد الثورة التقنية الثالثة التي نشهد مفاعيلها في حياتنا الحاضرة، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والتواريخ الكبيرة، وكذلك لم تعد الثقافة دلالة على الإنعطافات الثقافية المبتكرة حتى لو تلبّست بمسوح الثورية المتطرفة التي شهدنا آثارها في حركات الحداثة وما بعد الحداثة إلى جانب الحركات الفرعية التي تفرّعت منها أو إعتاشت على نسغها مثل: البنيوية واللسانيات والسيميوطيقا وتحليل الخطاب... إلخ من مفردات السلسلة الطويلة؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية وغير البشرية هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية والآيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مُصنّعاته التي لامست أدقّ تفاصيل الحياة البشرية.
ثمة ما يتوجّب الإشارة إليه في هذا الشأن: لم يعُد من إعتبار يذكر للرطانات اللغوية والأطروحات الفكرية المتعجرفة التي تدّعي السعي وراء الأفكار الكبيرة؛ بل صار المقياس الحاسم هو التأثير الإجرائي في طبيعة الحياة، وفي الوقت ذاته لا ينبغي أن نتوقّع سهولة الدخول في عصر الثقافة الثالثة لأن لكلّ عصر مريديه المُنافحين عن سطوتهم الفكرية والإعتبارية فيه، ويمكن في هذا الميدان الإشارة إلى الهجمة الإرتكاسية التي شنّها المثقف على الطراز الفكتوري (إف. آر. ليفز) على اللورد سنو عقب دعوته إلى ثقافة ثالثة تجسّر الهوّة بين الثقافتين العلمية والأدبية، ولم تكن هجمة السيّد ليفز تتفق مع أخلاقيات المناظرات الحجاجية المقبولة بلِ شابها الكثير من السّفَه والنية السيئة.
إن أقطاب الثقافة الثالثة ما عادوا كائنات كلاسيكية أو أناساً مهووسين بتداعيات ما بعد الحداثة أو الأطروحات الفكرية ذات الخلفيات الآيديولوجية؛ بل هم علماء مشتغلون في حقول الذكاء الإصطناعي أو الوعي البشري أو تقنية المصغرات (النانوتكنولوجي) أو الروبوتيات أو الفيزياء الكمية أو الكوسمولوجيا أو الجينوم البشري أو النظم الخبيرة أو الأوتار الفائقة أو رياضيات النظم الفوضوية أو الفضاء المعلوماتي السايبيري؛ أما المعتاشون على الفتيت المتساقط من موائد ما بعد الحداثة - وسواها من الخرائط الفكرية المخترعة - فليسوا سوى كائنات كسولة إستمرأت العيش على الذكريات غير المنتجة، وتتفاقم مفاعيل هذه الأطروحات السيئة في بيئتنا العربية لكونها بيئة مطواعة لتقبّل كل الرطانات الفكرية بسبب غياب الثقافة العلمية التي تعتمد تعشيق المباحث المعرفية في نُظُمٍ نسقية قادرة على إثراء العقل العربي والنهوض بمقوّمات تثويره المعرفي والفلسفي.
قيّم هذا الكتاب
هل استخدمت هذا المنتج من قبل؟
لا توجد أي مراجعات بعد