الوضع المائي الحالي في المنطقة العربية، هو الذي أثار في الدكتور "عبد الحميد سلامة" في الرجوع إلى الماضي لمعرفة الوضع المائي العربي السائد آنذاك، ومدى ارتباطه بموقع المنطقة العربية، الجغرافي والطبيعي والمناخي، وكيفية تعامل العرب القدامى معه، وما طرحه عليهم من قضايا طوال القرون السابقة، وما خلّفه لديهم من آثار على حاضرهم ومستقبلهم، فحاضر أمة من الأمم ومستقبلها لا يمكن أن يدرسا بعيداً عن ماضيها، لا سيما إذا كان هذا الماضي عبءً عليها في مثل هذه الحالة التي ندرسها، بسبب موقع المنطقة العربية غير الملائم، كما سنبين لاحقاً، فهذا الموقع هو الذي يتحكم في نظام التساقطات ومواسم الخصوبة والقحولة منذ القديم إلى اليوم، وله انعكاسات مباشرة على حياة الناس في كل الأزمان.
وحرصاً منه على تحقيق رغبته في معرفة ماضي العرب المائي، عزم على أن يتقدم بدراسة حول "قضايا الماء عند العرب قديماً"، فكانت هذه الدراسة التي بين يدينا والتي تجاوزت المواضيع المطروحة، وركزت على قضايا الماء عند العرب والناتجة عن العوامل الطبيعية دون غيرها، وذلك لإبراز ما اتسمت به هذه العوامل من حدة ودوام، وما ألحقته بالعرب من مجاعات وأوبئة وهجرات وانهيارات ديمغرافية دخلت معها المنطقة العربية في حقبة طويلة من الوهن والانحلال.
وهكذا جاءت الدراسة التي بين يدينا موزعة على مدخل عام وأربعة أبواب كبرى ينقسم فيها كل باب إلى ستة فصول وتتراوح عناصر هذه الفصول قلة وكثرة حسب طبيعة المادة المتوفرة.
المدخل العام: جاء منطلقاً لتحديد جغرافية المنطقة العربية وتقديم وضعها الطبيعي والمناخي. الباب الأول: استعرض قضايا الماء في تاريخ العرب وعاداتهم بالحديث عن أثر الماء في توجيه حياة السكان سواء بانقسامهم إلى بدو وحضر، أو باعتمادهم على الإبل في كل شؤونهم أو في معاناتهم العطش ومغامراتهم بحياتهم في سبيل الظفر بشربة ماء، وما يلقونه من جهد في خزنه واقتسامه.
وتحدث عن تراثهم من الأساطير وعلاقاتهم بالأحاديث التي لها صلة بالماء قبل الإسلام. ثم استعرض حادثتين مشهورتين تتعلق الأولى بانفجار بئر زمزم وما استأثرت به من بركة وقداسة عند العرب، وتتعلق الثانية بانهيار سد مأرب والمآسي المنجرة عنه اقتصادياً واجتماعياً وديمغرافياً.
وبين بعد ذلك دور الماء والمرعى في أيام العرب وحروبهم، كما تحدث عن مظاهر الإيثار والجود والماء، وعن الطابع الاجتماعي الذي اتخذته حاجة الإنسان إلى الاستسقاء، وعن تنافس العرب في بناء السقايات والأسبلة بالمدن والطرقات.
وأشار كذلك إلى مشاكل الماء التي اصطدم بها العرب عند تأسيس المدن وتعميرها كما حدث لهم بالبصرة والكوفة والقيروان، وناقش بعض الروايات والمواقف التي صاحبت تأسيس القيروان خاصة. وتتبع منزلة المطر عند العرب من خلال نظرتهم إلى الأحوال الجوية.
وتولى الباب الثاني: بيان مقام الماء في التشريع الإسلامي أو فيما اصطلح عليه بـ"مدونة الماء" فاستعرض المنزلة التي خص بها الإسلام الماء في القرآن والعبادات، وشرح مدونة الماء من خلال بيان موقف الإسلام من ملكية الماء، وإحياء الأراضي الموات، وتنويع الزكاة والخراج تبعاً لتنوع وسائل الري، وتنظيم توزيع الماء على الأرضي الزراعية بكل ما حفّ بها من ليس وتشعبات. وتناول بالتحليل والتعليل مشاكل اقتسام الماء بالواحات والأفلاج، ومواقف الفقهاء من اشتراك بيت المال وأهل الخراج في القيام بأشغال الصيانة والإصلاح.
وركز الباب الثالث: على أهم قضايا الماء في الفلاحة، سواء ببيان المتاعب التي لحقت بالعرب في بناء المنشآت المائية وتعهدها بالصيانة والإصلاح، أو ببيان هشاشة الوسط الطبيعي بالواحات، وضيق المساحات الصالحة للزراعة، أو ببيان الانعكاسات السيئة لهجرة الأيدي العاملة المختصة، ولآثار الفتن والثورات والحروب.
ورصد الباب الرابع: الأزمات والكوارث الناتجة عن قلة الماء وكثرته، وذلك باستعراض معجم الجدب والقحط في اللغة العربية، وما أفصح عنه العرب من تجربة مريرة مع قلة الأمطار والظمأ والجوع، وصدى ذلك في لغتهم وشعرهم ونثرهم. واجتهد في الكشف عن نسق التداول في أزمات الجدب والقحط ونسق استمرارها، وتحدث عما كان يصحب هذه الأزمات من تبعات اجتماعية واقتصادية وديمغرافية ثقيلة تدفع الناس إلى البحث عن تبريرات لممارساتهم أو القيام بردود فعل يائسة. ثم استعرض أشهر السيول التي ألحقت أضرار جسيمة ببعض المدن العربية في الممتلكات والمرافق والأرواح، وتتبع آفة العطش عند الحجيج في الطرقات المؤدية إلى الأماكن المقدسة وما كان يوجد في هذه الطرقات من خلل في توزيع الآبار، ومن عيوب في نوعية الماء.
واتبع التحليل كله بخاتمة أكد فيها أن كثرة قضايا الماء وتشعباتها وقسوتها وما خلفته من خسائر وكوارث، قد أثرت تأثيراً سيئاً في حركة الإنماء والتعمير بالمنطقة العربية وفي تعطيل تقدم العرب لقرون طويلة...