يلحظ الناظر في دراسات التاريخ الإسلامي عند العرب المحدثين والمعاصرين أنها بدأت شاملة للتاريخ الإسلامي أو العربي كله، ثم انكفأ أغلبها منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية على أعمال جزئية متخصصة، مكاناً أو زماناً أو وموضوعاً أو بعض هذا أو كل هذا، ولقد تأثرت تلك الأعمال بصورة...
يلحظ الناظر في دراسات التاريخ الإسلامي عند العرب المحدثين والمعاصرين أنها بدأت شاملة للتاريخ الإسلامي أو العربي كله، ثم انكفأ أغلبها منذ انتهاء الحرب الكونية الثانية على أعمال جزئية متخصصة، مكاناً أو زماناً أو وموضوعاً أو بعض هذا أو كل هذا، ولقد تأثرت تلك الأعمال بصورة كبيرة وبدرجات متفاوتة بنمطين من التيارات: أولاً، التيارات الاستشراقية الأكاديمية، بسلبياتها وإيجابياتها. ثانياً، تيارات النهضة الحديثة، إسلامية أو عربية أو وطنية قطرية. وكان تأثير النمط الأول واضحاً جلياً في تحديد مناهج أولئك الدارسين، وطرائق بحثهم وأساليبها، ويمكن رؤية ذلك في أربع شعب: أولاً، انفتاح مجال الدراسات التاريخية لتشمل كافة مناشط الحياة الإنسانية، ولم يعد منحصراً في جوانبها السياسية والعسكرية فحسب. ثانياً، اندباج دائرة المصادر لتتناول ذلك الانفتاح الشامل. ثالثاً، اتساع النظرة في دراسة أسباب الأحداث وعللها، فأصبحت التعددية المدرسة الغالبة، وتضاءل دور المدرسة الأحادية، وصارت الدراسات تتوجه نحو فهم الظاهرة التاريخية في مضمونها الاجتماعي بالمفهوم الشامل لذلك. رابعاً، توسل التحليل والتعليل والنقد الصارم أساليباً لإثبات الحقائق الجزئية المفردة ولا ريب أنك لتجد هذه السمات أوضح وأبرز في الدراسات الجزئية المتخصصة المعاصرة عنها في الدراسات الشاملة. وبالرغم من كل هذه الإيجابيات فإن هذا النمط بتياراته الاستشراقية كلها فيه علة كبرى توجه الطرائق، وتستغل الوسائل، لأن أولئك الدارسين أبناء بيئتهم وثقافتهم، بغاياتها وأهدافها القريبة والبعيدة، فهم يكتبون تاريخ غيرهم بمفاهيم حضارتهم، ويقرءون ذلك التاريخ على ضوئها، لأن التاريخ لا تعاد كتابته وإنما تعاد قراءته، وللقارئ الباحث منظوره الموجه، ومفاهيمه المؤثرة، وغاياته المبتغاة، وأهدافه المرتجاة التي تلون القراءة. ومهما يكن من أمر فإنه يمكن القول ومن هذا المنطلق فإن كل متعاط لصنعة الكتابة التاريخية في عالمنا العربي الإسلامي يكاد يشكو من قضايا المنهجية في أبحاثنا. وتزداد هذه الشكوى مع الأيام وزخم الإنتاج، سواء أكان إنتاجاً أكاديمياً صرفاً متمثلاً في رسائل ماجستير تقدم وأطروحات دكتوراه تناقش أم كان عملاً أكاديمياً يقوم به أهل الاختصاص بعد تخرجهم. والمحنة أشد فيما تطفح به دور النشر مما يدعي دراسات تاريخية وليس فيها من التاريخ إلا الاسم، وتخلو من المنهج في الشكل والرسم ومدار الاهتمام في هذا العمل الماثل بين يدي القارئ قضايا المنهج من خلال موضوعات محددة، لتكون النظرة عملية والمحاولة تطبيقية، وكيف لا وقد عايشها الباحث لأكثر من ثلاثة عقود.