إن المسألة الزراعية وما يرتبط بها من أنواع الملكية وأوضاع الوقف وإجراءات تخص الجباية، أصبحت حقلاً مفضلاً للباحثين في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، لكون القضايا التي تطرحها والإشكاليات التي تثيرها تحدد للباحثين المؤشرات الصحيحة للنشاط الاقتصادي والدلالات الواضحة للوضع...
إن المسألة الزراعية وما يرتبط بها من أنواع الملكية وأوضاع الوقف وإجراءات تخص الجباية، أصبحت حقلاً مفضلاً للباحثين في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، لكون القضايا التي تطرحها والإشكاليات التي تثيرها تحدد للباحثين المؤشرات الصحيحة للنشاط الاقتصادي والدلالات الواضحة للوضع الاجتماعين فضلاً عن كونها -في حد ذاتها- التعبير الواقعي على طبيعة الأحداث السياسية والتنظيمات الإدارية ونوعية الحياة الثقافية والروحية لدى أي شعب وفي أي بلد. إن توجه الدراسات التاريخية في الفترة الأخيرة لمعالجة المسألة الزراعية باعتبارها "قضية الأرض" من حيث حيازة المجال الزراعي واستغلاله والتصرف فيه والتعامل معه، يعتبر بحق نقلة نوعية في تناول الباحثين لجوانب حيوية من النشاط البشري، ظلت في مجملها مهملة إن لم تكن مجهولة في تاريخ الأقطار العربية وخاصة منها الجزائر. انطلاقاً من اهتمامه لمس الباحث "ناصر الدين سعيدوني" بالجانب الاقتصادي والاجتماعي من تاريخ الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي، أن هناك نقصاً ملاحظاً في دراسة قضايا الملكية ومسائل الجباية والوقف، قد يفرغ التاريخ الجزائري من محتواه الحقيقي ويشوه الجوانب الإيجابية منه، هذا إذا لم يحل دون فهمه فهماً صحيحاً، وقد تأكد له ذلك في فترة السبعينيات والثمانينيات عند دراسته للنظام المالي للجزائر أواخر العهد العثماني وأثناء معالجته للحياة الريفية بمقاطعة الجزائر قبل الاحتلال الفرنسي. فكان له ذلك بمثابة الحافز والمشجع على مواصلة البحث في هذا الميدان، وقد كلل جهوده بإنجاز العديد من البحوث والدراسات في قضايا الملكية والوقف والجباية في إطار المشاركة العلمية في الندوات والمؤتمرات التاريخية، تعرف القراء على ثلاثة أبحاث منها في كتاب "دراسات في الملكية العقارية" الصادر عن المؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر عام 1986، بينما ظلت باقي المساهمات متفرقة في المجلات والدوريات والنشريات المختصة، بعيدة عن نظر القراء وفي غير متناول أيدي الباحثين. وكان دافعه إلى جمع تلك البحوث والدراسات وإصدارها في هذا الكتاب، هو ذلك الإقبال الملاحظ الذي حظي به كتاب "دراسات في الملكية العقارية" عند صدوره، وذلك التقدير العلمي الذي نالته الأبحاث الأخرى التي ظهرت في النشريات المختصة في الوسط الجامعي خاصة. ولقد حرص على عرض مادة هذا كتابه من حيث المواضيع التي تتطرق إليها والجوانب التي تعالجها، حسب نوعيتها وطبيعة مادتها، وذلك لتأخذ شكل خاص بقضية الملكية ويضم أربعة أعمال، أولاها دراسة ذات طابع عام تتعلق بأوضاع الأراضي ببلاد المغرب العربي في العصور الحديثة، وثانيها بحث ينصب على فحص مدينة الجزائر باعتباره مجال دراسة نوعية وميدانية، والدراسة الثالثة تمس الأحوال الزراعية بالجزائر أواخر العهد العثماني، باعتبارها مؤشراً على واقع الملكية وطبيعة الإنتاج الزراعي، أما الدراسة الرابعة فهي تتجاوز الإطار التاريخي للجزائر إلى معالجة أوضاع أراضي الميري (ملكيات الدولة) ببلاد الشام بهدف مقارنتها بمثيلاتها بالجزائر، ورغبة منه في توسيع الرؤية لقضية الأرض واستكمال الصورة لواقع الملكية في العهد العثماني. أما في القسم الثاني من هذا الكتاب فيتناول مسألة الوقف من خلال أربع دراسات، أولها معالجة عامة تعرف بالوقف وتحدد أنواعه وهيئاته وما عرفته مؤسساته من تطورات وما تميزت به من نشاط، والدراسة الثانية تنصب على الجهاز المشرف على الأوقاف من حيث موظفيه والصلاحيات المخولة لهم، أما الدراسة الثالثة فهي تعالج وضعية الوقف أواخر العهد العثماني وأوائل الاحتلال الفرنسي، بينما تهدف الدراسة الرابعة إلى التعمق في معالجة بعض القضايا التي سبق عرضها في الدراسات السابقة بصفة إجمالية، وذلك بمقاربة نوعية محددة من حيث المجال الجغرافي وهو فحص مدينة الجزائر، والبعد الزماني وهو الفترة المتأخرة من العهد العثماني. بينما طرح في القسم الثالث من الكتاب مسألة الجباية في الجزائر من خلال ثلاث دراسات متكاملة، الأولى تتعرض لواقع الضريبة في الريف والمدينة قبل الاحتلال الفرنسي للجزائر، بعرض مبسط وبنظرة إجمالية، مما يجعلها بمثابة تمهيد للدراستين التاليتين، وهما: الدراسة الثانية التي تقدم عرضاً نموذجياً للجباية بالإقليم المركزي للجزائر العثمانية وهو مقاطعة دار السلطان وبايليك التيطري، والدراسة الثالثة الخاصة بالنظام الضريبي لدولة الأمير عبد القادر باعتباره محاولة ناجحة لإحياء الإجراءات الجبائية التي كانت سائدة في الفترة الإسلامية وأثناء العهد العثماني، والتي برهنت الظروف على صلاحيتها وملاءمتها لأوضاع الجزائر.