يعتبر كتاب التفريع مثالاً بارزاً لمنعرج حاسم وتحول واضح في مسار تاريخ التشريع الإسلامي وتطور الفقه من طور الاجتهاد والابتكار انطلاقاً من المصدرين الرئيسين الكتاب والسنة إلى طور التطبيق والتفريع والتحليل والتفصيل في نطاق ما توصل إليه اجتهاد السلف. وقد سمي هذا الطور الذي ساد في القرن الرابع الهجري طور الاجتهاد المقيد أو اجتهاد المذهب ضمن أصول أحد المذاهب الأربعة المستقرة، علماً أن الاجتهاد المطلق قد أوصدت أبوابه منذ أواخر القرن الثالث باتفاق ضمني بين المؤمنين الصادقين من أهل السنة، خشية أن يوجد من يستغل باتفاق دعوى الاجتهاد لبث البدع وإفساد الشريعة.
ويعتبر كتاب التفريع كذلك مثالاً رائداً لنوع جديد من المؤلفات الفقهية، وهي المختصرات الجامعة التي تتناول عدداً ضخماً من المسائل المندرجة تحت أبواب الفقه كلها بصورة شاملة وبصيغة موجزة.
ويعتبر كتاب التفريع أيضاً مثالاً فريداً في منهجه وأسلوبه وطريقة عرضه للمسائل.
وإذا ما عدنا لمتن هذا الكتاب نجد أنه عبارة عن كتاب فروع جامع لكل أبواب الفقه، من العبادات والمعاملات، على المذهب المالكي، صيغت في واحد وثلاثين كتاباً، حسب ترتيب يختلف اختلافاً يسيراً من نسخة إلى أخرى.
وقد أورد التتائي أن مسائله تبلغ ثمانية عشر ألف منها اثنتا عشر ألف موافقة لما في المدونة وستة آلاف ليست فيها، بينما قال ابن عبد السلام إن فيه ثمانية عشر ألف مسألة عن مالك سوى أصحابه. ويحتوي الكتاب بالإضافة إلى الأحكام الخاصة بتلك المسائل، على جملة من القواعد الفقهية التي عرفها القوافي كما يلي: "القواعد الفقهية التي يطلق عليها المالكية الأصول القريبة تهدف إلى جمع أشتات الأحكام الشرعية الكثيرة المتشابهة في قاعدة واحدة تنطوي على أسرار الشريعة وحكمها".
وقد كان ابن الجلاب من الأوائل الذين تعاطوا هذا النوع من التقعيد الفقهي الذي ينتمي إلى علم الأصول أكثر منه إلى الفقه، والذي كان يمثل طوراً من أطوار التشريع.
والملاحظة أن بعض المواضيع قد شدت اهتمام المؤلف أكثر من غيرها فأغرق في بحثها وتقليبها من كل جوانبها واستنباط أحكام لها. وهذه المواضيع هي الأربعة التالية: 1-الصلاة: بما فيها الطهارة ولعل ذلك يرجع إلى أن الصلاة هي عماد الدين، وتحتل المرتبة الأولى في الشريعة الإسلامية. 2-الرقيق: قد أفرد المؤلف لهذا الموضوع أربعة كتب دون الاستطرادات الواردة بشأنهم في مختلف الأبواب مثل إمامة العبد في الجمعة والأعياد، وستر عورة الأمة في الصلاة، والزكاة على قيمة العبد المكاتب أو المدبر، وزكاة الفطر عن العبد، وحج العبد، وأقضيته من شهادة وتفليس ومداينات ورهان وغصب واستحقاق وحدود. 3-النكاح والطلاق: نال هذا الموضوع أيضاً نصيباً وافراً من كتاب التفريع. ولعل أسباب ذلك مرتبطة بموضوع الرقيق السابق ذكره، بالإضافة إلى الأهمية البالغة التي تكتسيها الأسرة في الإسلام. 4-الأقضية هي كذلك من المواضيع التي توسع فيها المؤلف وعالجها من جميع وجوهها وجزئياتها.
وقد افتتح المؤلف كتابه بالطهارة مثل المدونة وختمه بكتاب الجامع مثل الموطأ، متعرضاً إلى كل أبواب الفقه المتعارفة في ذلك العصر، مقتدياً بمنهج إمام المذهب مالك.
وبالنظر لأهمية هذا الكتاب فقد اختار "حسين بن سالم الدهماني" القيام بتحقيقه فاعتنى أولاً: بالتعريف بعض المؤلف، فوصف بإيجاز الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والدينية، ثم قام بالتعريف المؤلف ابن الجلاب وبكتابه "التفريع" فتحدث عن المذهب المالكي بصفة عامة، وفي العراق بصفة خاصة، كما تحدث عن المدارس الفقهية المالكية في ذلك العصر والتبادل الثقافي بينها. ثم تناول حياة المؤلف ومكانته العلمية قبل أن يتخلص إلى دراسة كتاب "التفريع" وإبراز مكانته في إطار المصنفات الفقهية من كتب الفروع والمختصرات.
وبعد ذلك بحث شروحه واختصاراته وتدريسه في مختلف البلدان والأزمان، وقارنه ببعض الكتب المماثلة في المذاهب السنية، وختم القسم الأول المتعلق بالدراسة بوصف النسخ المعتمدة في التحقيق وتعداد النسخ المعتمدة في التحقق وتعداد النسخ الأخرى الموجودة في مختلف بلدان العالم.
ثالثاً: قام بتصحيح متن النسخ التي اعتمدها كمادة للكتاب، من ثم قام بشرح بعض المفردات اللغوية والمصطلحات الفقهية لتيسير فهم النص، بعد ذلك اهتم بتخريج الآيات والأحاديث الواردة في النص، وأخيراً وضع مجموعة من الفهارس الهامة. منها فهرس للأحاديث النبوية، وفهرس للأعلام، وفهرس للمصادر والمراجع...