اشتهر محمود بيرم بين الدارسين وعامة الناس بأزجاله وأغانيه التي لحنها وأدّاها عدد من كبار المطربين المعاصرين، لكن القليل من هؤلاء هم الذين يعرفون مكانة بيرم في الأدب العربي المعاصر كاتباً ومبدعاً، ويذكرون نضاله القومي، وجرأته الفكرية، وآراءه الإصلاحية. ورغم أن عدداً من...
اشتهر محمود بيرم بين الدارسين وعامة الناس بأزجاله وأغانيه التي لحنها وأدّاها عدد من كبار المطربين المعاصرين، لكن القليل من هؤلاء هم الذين يعرفون مكانة بيرم في الأدب العربي المعاصر كاتباً ومبدعاً، ويذكرون نضاله القومي، وجرأته الفكرية، وآراءه الإصلاحية. ورغم أن عدداً من الكتاب والأدباء المصريين اهتموا بشخص بيرم، وألفوا عنه مجموعة من الكتب، وجمعوا بعض أزجاله ومقاماته، ونوهوا بخصاله الفريدة ومواقفه السياسية الشجاعة، وأشادوا بعبقريته الأدبية والفنية، ووفوه بعض ما يستحق من الإكبار والتنويه، فإن هذه الكتابات اقتصرت على الجانب المتصل بحياته وإنتاجه في مصر، ولم تتعرض إلى ما كان كتبه ونشره بيرم في الأقطار العربية الأخرى التي تغرّب فيها، ومارس فيها بعض النشاط السياسي والفكري والأدبي، مثل تونس التي أمضى فيها فترة هامة من فترات تشرده السياسي. ذلك أن محمود بيرم كما هو معلوم قضى أهم سني شبابه وجانباً من كهولته خارج مصر التي كان أُبعد عنها في سنة 1919 بقرار من الملك فؤاد حيث عاش بفرنسا نحو ثلاثة عشر عاماً، ثم حلّ بتونس في أواخر سنة 1932 وقضى بها نحو الخمس سنوات، ولم يلبث أن أقصي عنها إلى سوريا سنة 1937 قبل أن يتسلل من جديد ولآخر مرة إلى مصر ليكمل بقية حياته هناك، إلى أن وافاه الأجل المحتوم بمسقط رأسه هناك في شهر يناير 1961. وتجدر الإشارة إلى الاعتقاد السائد بأن محمود بيرم مصري الأصل، دونما نظر إلى أنه تونسي الأصل، وإنما كان إبعاده عن مصر بسبب حمله الجنسية التونسية التي لم يتنازل عنها إلا في أخريات حياته، وأن ما كتبه بتونس كرسه لمعالجة القضايا التونسية. لذا يمكن القول بأن دراسة بيرم شاملة سوف تظل منقوصة ومبتورة، ما لم يكشف النقاب عن نشاطه في هذه الفترة وينشر تراثه الذي كتبه في تونس والذي يناهز أو يفوق ما أنتجه في مصر خلال مرحلتي شبابه المبكر وشيخوخته اللاحقة. على أن كتابات محمود بيرم خلال هذه المرحلة كانت تتميز عن بقية كتاباته الأخرى التي كان نشرها بمصر، أو أرسل بها إلى الصحف والمجلات المصرية أبان إقامته بالمنفى بفرنسا، إذ بينما نجد تلك الكتابات باللهجة المصرية الصحيحة التي كانت موجهة أساساً إلى رجل الشارع المصري الذي يتجاوب مع هذه اللهجة ويطرب لها؛ فإن ما كتبه في تونس التزم فيه اللغة العربية الفصحى ولم يشذ عنها إلا في القليل النادر، انطلاقاً من إيمانه بحاجة المجتمع التونسي إلى دعم اللغة العربية، وشعوراً منه بما كانت تمثله اللهجة العامة من خطر على العربية في هذا المجتمع، واتجاه المستعمر إلى تشجيع الكتابة بها لأسباب سياسية، بل إننا نجده في بعض مقالاته يناوئ هذه اللهجة، ويعتبر الكتابة بها مروقاً حضارياً، وتواطؤاً مع الاستعمار. إلى جانب ذلك؛ فإن إبراز دور بيرم التونسي خلال هذه المرحلة، سوف يوضح للقارئ الصورة المتكاملة عنه كنموذج متفرد بين الأدباء العرب المعاصرين، سواء من خلال وفائه للمبادئ والقيم التي كرس لها حياته وفكره، والتزامه التعبير عن مشاغل وقضايا الجماهير في سائر البلاد التي تنقل بينها، أو من خلال شخصيته النضالية التي عرّضها إصرارها على تحدّي الظلم والطغيان بعشرين سنة كاملة من النفي والإبعاد والتشريد بين الأوطان العربية والأجنبية. من هذا المنطلق تأتي الدراسة في هذا الكتاب والتي تركز على هذه المرحلة في حياة بيرم التونسي ولما ينتظر أن يكون لنتائجها من انعكاسات على إعادة النظر إلى الدراسات البيرمية من منطلق شمولي. وقد انتهج الكاتب خطة بحث تقوم على التركيز أساساً على صميم هذه المرحلة، دون إغفال صورة جامعة لمختلف مراحل حياة بيرم التونسي الأخرى. وقد جعل البحث في بابين، في أولها استعرض الكاتب خلاله حياة بيرم التونسي في كل من مصر، وفرنسا، وتونس وسوريا، قبل العودة نهائياً إلى مصر. مخصصاً الباب الثاني لدراسة آثاره بتونس ولإبراز إسهامه في الحياة السياسية والفكرية والأدبية، مختتماً البحث بلمحة مكثفة عن أهم الخصائص الفنية لكتاباته المختلفة خلال هذه الفترة ومع فهرس جامع شامل لكل ما أنتج في المجالات السياسية والاجتماعية والأدبية وغيرها.