لم يَزَل مِدَادُ أقلام المحدِّثين تَمْتَلِئُ به القَرَاطيس، وفيْضُ محفوظِهِم من السُّنَّةِ والأَثَرِ يَتَدَاولُه الرُّوَاة، وأخبار نَاقِلِي الحديثِ وأنباؤُهم تَتَنَاقَلُهَا الرُّكْبَان، وجهودُهُم المبْذُولَةُ في هذا الميْدَان يُتحدَّثُ بها في المجَالِس، فسَارَت في النَّاسِ أَسْيَرَ من مَثَل، وانْتَشَرَت عَبْر القُرُونِ حتى صَارَت أَشْهَرَ من القَمَر، وما ذاك إلا بِبَرَكَةِ بَذْلِهم الأعْمَار في خِدْمَةِ حديثِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم، وثمرة قَضَائِهُم الأَوقَات في تَدْوِينِ المتون في أمَّات الكتب والأصول، فكان من شِعَارَاتِهُمُ المؤَثِّرة، وعِبَارَاتِهُمُ المعبِّرة: "طَلَبُ الحَدِيثِ مِنَ المَحْبَرَةِ إِلَى المَقْبَرَةِ"، فللّه دَرّ أَنْفَاسِهم وهُم يَتَنَفَّسُونَ حَدِيثَه، ولله دَرُّ أَيْدِيهُم وهُم يدوّنون آثارَه، ولله دَرُّ أقْدَامِهم وهُم يَرْحَلُون من أَجْل التَّثَبُّتِ في الأَخْبَار، وطَلَب العُلُوّ في سَمَاعِ الآثَار، فَغَدَوا مِن أَجْلِهِ شَامَةً في النَّاس، يُظْهِرُونَ الحَقَّ دُونَ التِبَاس، ويميّزون بين الغَثِّ والسَّمِين، ويفرِّقون بين الرَّثِّ والثَّمِين، ويَنْفُونَ البَاطِلَ وَيُقَرِّرُونَ الحَقَّ المُبِين.

من هذه الكتب التي حفِلَت بعظيم العناية، وحظيت بجسيم الرِّعاية؛ (الجامع الصَّحيح) للإمام البخاري الذي تلقَّته الأمُّة بالقَبول، واجتمعت على صحَّته القلوب والعقول، واعتنت بروايته عن مصنِّفه الرِّجال الفحول، وأقبلت على نَسْخِه عبر العصور آلافُ الأيْدي، واشتغل بقراءته وإقرائه وشرحه خَلْقٌ لا يحصون؛ حتى وصلنا متواترًا، محفوظًا مُصَونًا، لا شك فيه عند أولي الألباب.

وفي هذه الأوراق تسليط الضُّوء على جهودٍ دمشقيةِ الابتداء، مقدسيَّةِ الانتهاء؛ تؤرِّخ رحلةَ نسخةٍ خطيَّةٍ نفيسةٍ من نُسَخ الجامع الصَّحيح للإمام البخاري عبر سبعة قرون متتالية، بدأت في دمشق من منتصف القرن الثَّامن الهجري، ثمَّ انتقلت إلى بيت المقدس موقوفة على طلبة العلم تحت قُبَّة الصَّخرَة المُشرَّفة داخل المسجد الأقصى، لتعيش حياةً علميَّةً زاهيةً عبر علماء بيت المقدس والرَّاحلين إليه من الأقطار حتَّى آخر القرن الثَّالث عشر الهجري.

وهذا الكتاب الموسوم بـ:

(البيان والتَّعريفْ بنُسخَة الجَامِع الصَّحيح للبخاري الموقوفة على قُبَّة الصَّخرَة المُشرَّفَة في القُدس الشَّريف)

المنسوخة في دمشق من عام (747 هـ) إلى عام (750 هـ)

بخطِّ العلامة

محمد بن علي بن سالم المعروف بالقرعوني الحنفي (ت 796 هـ)

من إعداد الأخويْن الكريميْن:

يوسف محمد مروان الأوزبكي المقدسي

محمد خالد كُلّاب الرّملي الغزّيّ

يمثّل تعريفًا بتحفة فنية رائعة خطتها أقلام العلماء في ذاك الزمان، مع التعريج على القراءات والسماعات لهذه النسخة المقدسية في بيت المقدس على مدار سبعة قرون متتالية.

مع تذييل هذه الدراسة بملحقيْن نفيسيْن حول بعض نسخ صحيح البخاري النفيسة في بيت المقدس